آية اكتمال التشريع

الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)

الخميس، 4 أبريل 2024

كتاب كتاب الحوادث الجامعة والتجارب النافعة ابن الفوطي

 

كتاب الحوادث الجامعة والتجارب النافعة ابن 


الفوطي

 

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

تابع لسنة 626هـ

أحد خدم الخليفة إلى المارستان العضدي ومعهم عبد العزيز ابن القبيطي، واعتبرت الحوائج التي في المخرن فسأل صاحب المخزن خازن المارستان والطبيب والقوام كم تكفي هذه الحوائج مرضى المارستان، فاتفقوا علي أن تكفيهم سنة، فقال قد أنهى ابن القبيطي أن المارستان خال من الحوائج وأنه يشتري ما يحتاج إليه المرضى ثم أمر به فصفع إلى أن وقع الى الأرض وتقدم بحمله الى حجرة المجانين فحبس بها مسلسلاً وأفرج عنه بعد شهر.

وفي غرة رجب المبارك فرقت الرسوم بالبدرية وفتح الرباط المستجد بدار الروم الذي أنشأه الخليفة المستنصر بالله مجاور المسجد ذي المنارة الذ أمر بعمارته وأسكنه جماعة من الصوفية وجعل شيخهم الشيخ أبا نصر بن عبد الرزاق بن عبد القادر وخلع عليه وعلى الجماعة وعملت به الدعوة.

وفيه استدعي شهاب الدين محمود بن أحمد الزنجاني مدرس النظامية إلى دار الوزارة فأخذ وهو على السدة يذكر الدروس وعزل وتوجه إلى داره بغير طرحه، ورتب عوضه عماد الدين أبو بكر محمد بن يحيى السلامي المعروف بابن الحبير وخلع عليه وأقره على تدريسه بمدرسة فخر الدولة ابن المطلب يعقد المصطنع وعلى المدرسة الاسبهبذية بين الدربين.

وفيه أحضر أبو القاسم علي ابن البوري إلى باب النوبي وضرب مائة عصا وقطع لسانه وحمل إلى حبس المدائن وكان شابا حسن الصورة تام الخلقة جميلاً نقل عنه ما اقتضت السياسة أن يعمل به ذلك، نعوذ بالله من طوارق الليل والنهار.

وفي شعبان تكامل بناء المسجد المستجد المعروف بقمرية بالجانب الغربي على شاطىء دجلة المقابل للرباط البسطامي ونقل إليه الفرش والآلات وقناديل الذهب والفضة والشموع وغير ذلك، وفتح في شهر رمضان ورتب فيه مصليا الشيخ عبد الصمد ابن أحمد بن أبي الجيش وأثبت فيه ثلاثون صبياً يتلقنون القرآن عليه. ورتب فيه معيد يحفظهم التلاقين ورتب أيضا فيه الشيخ حسن بن الزبيدي محدثاً يقرأ عليه الحديث النبوي في كل يوم اثنين وخميس. ورتب أيضا قارىء للحديث وجعل في المسجد خزانة للكتب وحمل إليها كتب كثيرة، وفيها نفذ فخر الدين أبو طالب أحمد بن الدامغائي والشيخ أبو البركات عبد الرحمن بن شيخ الشيوخ والأمير فلك الدين محمد بن سنقر الطويل الى جلال الدين منكوبري بن خوارز مشاه محمد بن تكش مع رسول كان وصل منه وهو يومئذ على خلاط محاصراً لها ونفذ له معهم تشريفات وكراع ولباس الفتوة. ووكل فخر الدين بن الدامغار في فتوته من الخليفة المستنصر بالله والشيخ أبو البركات نقيب الفتوة وكان ذلك بموجب سؤاله.

وفي غرة ذي القعدة خلع على الأمير شمس الدين أصلانتكين وأخرج نائباِ عن أمير الحاج فورد الخبر الى بغداد أن قوماً من عرب البطنين خرجوا على الحاج وعدلوا بهم عن الطريق المسلوكة في كل سنة وطلبوا منهم خفارة واختطفوا من أطرافهم وأسفرت الحال الى تقرير أثني عشر ألف دينار تسلم إليهم وينصرفون عنهم فصححت لهم نفقات السبل ومال المخزن المعد للصدقة من غير الزام أحد من الحاج بشيء وانفصلوا عنهم فتقدم الخليفة بالتعيين على الأمير جمال الدين قشتمر وأن يخرج معه خمسة الآف فارس ويقصد الاعراب المذكورين فتوجه في ثاني عشر ذي الحجة فلما وصل الكوفة عين على جماعة نفذهم طلائع فلما وصل لينة عاد منهم من أخبره أن مددهم من الثعلبة الى زرود وهم يرقبون وصل الحاج فرحل من لينة على غير الطريق المسلوك فوصل من الطوالع من أخبره أن بينه وبين العرب نحو مرحلتين وهم نزول بالحضرا والثعلبية فجعل امراء العسكر ومشايخ العرب وعين لهم وقت اللقاء ثم ركب وسار ليلته أجمع حتى وصل إليهم فاقتتلوا أشد قتال فانهزمت العرب وقتل منهم خلق كثير فاحتوى العسكر على أموالهم دون أولادهم ونسائهم وأقاموا بالموضع المذكور إلى أن وصل الحاج الثعلبية واجتمعوا بهم واصطحبوا راجعين إلى بغداد.

 

وفيها عزل محيي الدين يوسف ابن الجوزي عن النظر بخزانة الغلات بباب المراتب ورتب عوضه كمال الدين عبد الرحمن بن ياسين ثم عزل أيضاً عن ديوان الجوالي ورتب عوضه محي الدين محمد بن فضلان وتقدم إليه باعتماد الشرع المطهر في أخذ الجزية من أهل الذمة فزاد على من عليه دون الدينار لأنه لا يجوز في مذهب الشافعي رضي الله عنه أن يؤخذ من أحد أقل من دينار إذا كان فقيراً وأن كان متوسطا أخذ منه ديناران وأن كان غنيا أخذ منه أربعة دنانير، لايجوز أن ينقص أحد من أهل هذه الطبقات الثلاث عن هذه المقادير اقتداء بعمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنه جعل أهل السواد ثلاث طبقات على ما تقدم شرحه اقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنه لما بعث معاذاً الى اليمن قاضياً أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا وفي رواية ومن الغني أربعة دنانير ومن المتوسط دينارين ولا تقدير لاكثر الجزية فإنه لو طالب الامام أو نائبه أضعاف ذلك جاز حتى لو امتنعوا من اداء الزيادة كانوا ناقضين للعهد، وفيها توفى يعقوب بن صابر الحراني الأصل البغدادي المولد المنجنيقي. كان شيخاً فاضلاً مقدماً على أهل صناعته وعنده أدب ويقول الشعر فمن شعره:

هل لمن يرتجي البقاء خلود ... وسوى الله كل حي يبيد

والذي كان من تراب وأن عا ... ش طويلاً الى التراب يعود

ومصير الانام طرا الى ما ... صار فيه آباؤهم والجدود

منها:

أين حواء أين آدم اذ فا تهما الخلد والثوى والخلود

أين عاد بل أين جنة عاد ... ارم ابن صالح وثمود

وهي طويلة، آخرها:

لا الشقي الغوي من نوب الأ ... يام ينجو ولا السعيد الرشيد

ومتى سلت المنايا سيوفا ... فالموالي حصيدها والعبيد

ومن شعره:

كلفت بعلم المنجنيق ورمية ... لهدم الصياصي وافتتاح المرابط

ونظم القوافي والمديح لشقوتي ... فلم أخل في الحالين من قصد حائط

وكان كثير الدخول على الوزير ناصر بن مهدي، ثم صار اذا جاء يجلس ظاهر الستر، فقال:

قولوا لمولانا الوزير الذي ... أضاع ودي ونوى هجري

وصوت إن جئت إلى بابه ... أجلسني في ظاهر الستر

ان كان ذنبي إنني شاعر ... فاصفخ فقد ثبت من الشعر

ثم انقطع عنه مدة، فلما دخل إليه أنكر عليه انقطاعه، فقال:

وقالوا قد صددت وملت عنا ... فقلت أبيت تكرار المحال

أنفت من الوداد إلى إناس ... رأوا حالي ولم يرثوا لحالي

ثم هجاه فقال:

خليلي قولا للخليفة أحمد ... توق وقيت السوء ما أنت صانع

وزيرك هذا بين أمرين فيهما ... صنيعك ياخير البرية ضائع

لئن كان حقا من سلالة حيدر ... فهذا وزير في الخلافة طامع

وأن كان فيما يدعي غير صادق ... فاضيع ما كانت لديه الصنائع

وله في غلام ثقيل الروادف:

يقعده في النهوض ردف ... قيامتي دونه تقوم

أفديه من مقعد مقيم ... عندي به المقعد المقيم

وله في زامر:

وزامر بات نديما لنا ... ما بين سكران ومخمور

تقتلنا الخمر ونحيا به ... كأنه ينفخ في الصور

وأنشد يوما قول القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني:

القني في لظى فإن غيرتني ... فتيقن ان لست بالياقوت

شمل النسج كل من حاك لكن ... نسج داود ليس كالعنكبوت

فقال في جوابها:

أيها المدعي الفخار دع الفخر ... لذي الكبرياء والجبروت

نسج داود لم يفد صاحب الغا ... ر و كان الفخار للعنكبوت

وكذلك النعام يبتلع الجمر ... وما الجمر للنعام يقوت

وبقاء السمند في لهب النار ... مزيل فضيلة الياقوت

وفيها، توفي أبو الفضل جبريل بن زطينا كاتب الديوان كان أولاً نصرانياً وأسلم في أيام الخلفية الناصر لدين الله وكان ذا فضل وأدب وله نظم ونثر وأشياء مستحسنة، ومن شعره:

ان سهرت عينك في طاعة ... فذاك خير لك من نوم

 

أمسك قد فات بعلاته ... فاستدرك الفائت في اليوم

وأن قسا القلب لاكداره ... فصفه بالذكر والصوم

وله:

اذا أعيا عليك الامر فارجع ... الى رب عوائده جميلة

فكم من مسلك مع ضيق سلك ... تجلى واستبان بغير حيلة

وله:

اريد من نفسي نشاط الشباب ... ودون ما أبغيه شيب الغراب

فكيف والسبعون جاوزتها ... ومذهب العمر رمى بالذهاب

ومطلبي عز وما دونه ... تأباه نفسي واموري صعاب

وقد تحيرت ولا غرو أن ... يحار من يطلب ما لايصاب

وفيها توفي الاستاذ سعد الدين محمد بن جلدك خازن دار التشريفات، كان شيخاً عاقلاً تولى خدمة الخليفة الناصر لدين الله مدة عمره وصحبه سفرا وحضرا وكان يتولى حمل مطالعاته إلى الوزير وغيره ممن تبرز إليه مطالعته.

وفيها، توفي الملك المسعود أبو الظفر يوسف ابن الكامل الملك محمد ابن الملك العادل أبي بكر محمد بن أيوب بن شادي، لما ملك أبوه الملك الكامل اليمن، واستولى على مكه، ولاها ابنه الملك المسعود هذا فاستناب بها أميراً، وكان هو يتردد إليها ومقامه باليمن ولم تكن سيرته حسنة ولا طريقته محمودة. قيل أنه دخل مكة في هذه السنة فأساء السيرة في أهلها ثم رمى طيور الحرم الشريف بالبندق فشلت يده وأدركه أجله بها، فمات ودفن بالمعلى، وكان شابا.

سنة سبع وعشرين وستمائة

في غرة المحرم، جلس محي الدين أبو عبد الله محمد بن فضلان في ديوان الجوالي واستوفى الجزية من أهل الذمة، فكان أحدهم يقف بين يديه الى أن توزن جزيته ويكتب به ورق وهو صاغر فلقوا من ذلك شدة وكان أبو علي ابن المسيحى رئيس الطب. له اختصاص ودخول إلى دار الخليفة فأظهر المرض واعتذر وسأل أن تؤخذ جزيته من يد ولده، فلم تقبل منه، فحضر، وأداها ومضى ابن الشويح رأس مشيئة اليهود إلى داره ليلاً وسأله أن يأخذ الجزية منه فلم يلتفت إليه، وقال له لابد أن تحضر نهاراً إلى الديوان وتؤديها، وشدد في ذلك ولم يسامح أحداً.

وفيه، ولي شمس الدين أبو ال؟أزهر أحمد بن الناقد استاذية الدار، وخلع عليه وذلك إضافة إلى وكالة الخلفة المستنصر بالله.

وفيها، وصل فخر الدين أحمد بن الدامفاني وشمس الدين عبد الرحمن شيخ الشيوخ، والأمير فلك الدين محمد بن سنقر الطويل، وسعد الدين حسن بن الحاجب علي المقدم ذكر توجههم في السنة الخالية، إلى جلال الدين منكوبرتي، وكان اجتماعهم به ظاهر خلاط وهو نازل عليها ومحاصر لها، فخلعوا عليه وألبسوه سراويل الفتوة، ووصل بعدهم بأيام، رسول منه برسالة، مضمونها شكر الإنعام عليه والأخبار بفتح خلاط وملكها. فخلع عليه وعلى خواصه، وأنزل دار الأمير محمد بن االنباري على دجلة فأقام أيام ثم عاد.

وفيها، نقل عن عبد الله بن اسماعيل صاحب ابن المنى الواعظ ما اقتضى أنه أحضر الى دار الوزرة وضرب مائة عصا وقطع لسانه وحمل إلى المارستان العضدي، وحبس في حجرة المجانين وأفرج عنه بعد ثلاثة أشهر.

وفي غرة شهر رجب المبارك، فرقت الرسوم من البر على أربابها جاري العادة، وأبرز من دار الخليفة الى استاذ الدار شمس الدين أحمد بن الناقد ما أمر بتفرقته على الفقراء والمحتاجين ببغداد.

وفيها، قلد قاضي القضاة عبد الرحمن بن مقبل الواسطى أبا عبد الله محمد بن أبي الفضل الحنفي ويعرف بربيب الابرى، قضاء واسط وولاية الوقوف بها.

وفيها، تقدم الخليفة المستنصر بالله إلى فخر الدين أحمد بن نائب الوازارة مؤيد الدين القمى، بعمارة مساجد الكرخ فشرع في ذلك فلما تكاملت عمارتها، رتب بها الائمة والمؤذنون.

وفيها، تكامل بناء قصر مبارك، الذي أمر بعمارته بباب البصرة المشرف على الصراة.

وفيها، نقل ظهير الدين الحسن بن عبد الله، من أشراف الديوان إلى صدرية المخرن، ورتب العدل فخر الدين أحمد بن الدامغاني عوضه في اشراف الديوان.

وفيها، وصل رسول من محمد بن يوسف ابن هود، يخبر باستيلائه على معظم بلاد الغرب واستعادتها من أيدي غصابها بني عبد المؤمن، واقامة الدعوة بها للدولة العباسية، فأكرم الرسول ثم كتب على يده شيء إلى مرسله وخلع عليه وأذن له في العود.

 

وفيها، تكامل بناء سور الرصافة، الذي أمر بعمارته الخليفة المستنصر بالله.

وفيها، ولي الأمير شمس الدين أصلان تكين الناصري، إمارة الحاج وحج الناس في هذه السنة.

وفيها، توفي عضد الدين أيو نصر المبارك بن الضحاك وكان شيخاً ديناً فاضلاً أديباً، وكان من المعدلين بمدينة السلام، ورتب ناظراً بديوان الجوالي، وكتب ديوان الانشاء، ثم نفذ رسولا إلى صاحب الشام، فلما عاد رتب أستاذ دار الخلافة، فكان على ذلك إلى أن توفي، وكان له شعر حسن، فمما نسب إليه ما رئى به بعض أصحابه وهو:

لئن مضى أحمد حميدا ... ما الموت في أخذه حميد

أو بخلت مقلة بدمع ... فهي على مثله تجود

وفيها، توفى الأمير نور الدين ككسنقر التركي المعروف بالحلقي كان أولا لبعض أمراء العراق، فلما توجه الوزير بن القصاب إلى هناك وأستولى على تلك الأماكن، حضر عنده بعض الأمراء فشاهد معه ككسنقر المذكور فاستحسن صورته وأعجبه قده وهيفه، فأشار إلى بعض المماليك بأن يتحدث إليه ويطمعه في سيده بحيث يطلب منه الانفصال عنه وبعده أن ينفذ به إلى بغداد ويصير بها أميراً أكبر من سيده، فاجتمع به المملوك، وفاوضه في ذلك ورغبه فشافه سيده بذلك، فقلق قلقاً شديداً وتضرع إليه في أن لا يفارقه فلم يرق له فمنعه سيده من الخروج فالقى نفسه من الدار ومضى هارباً إلى الوزير واستجار ببابه فأدخله إليه وسمع كلامه، وأحضر سيده وتحدث معه في بيعه فلم يجب إلى ذلك، فأمر الوزير بانفاذ ككسنقر إلى بغداد مع ثقة، فلما وصل، ورآه الخليفة فأحسن إليه وتلقاه بالقبول، ولم يزل في ارتقاء وعلو منزلة، وقربه حتى ولاه الإمارة وجعله أمير السلاح وأقطعه معاملة الحدادية، من أعمال واسط ثم أقطع قوسان، وأضيف إليه جماعة من الأمراء ولم يزل يداوم على الشراب حت غلب عليه البلغم وسمن سمناً عظيماً، عطله عن الحركة وامتنع من الركوب، فلم يزل على ذلك إلى أن توفي. وأما سيده فإنه لم بعد فراقه مشغوفاً به هائماً عليه. مفكراً فيه، حتى أخذه السل فأحرقه ومات.

وفيها، عاد الأمير مجير الدين جعفر بن أبي فراس الحلي إلى بغداد وكان مقيماً بمصر عند ولده، فلما وصل، وقع الرضا عنه من الخليفة المستنصر بالله، وكان سبب توجهه إلى مصر، أن الخليفة الناصر كان قد أمره، وجعل إليه شحنكية واسط البصرة، ثم عزله عن ذلك ولم يوله فانقطع إلى التعبد وحج في إمارة ولده حسام الدين على الحاج، فلما فارق ولده الحاج، وتوجه إلى مصر، مضى صحبته وأقام إلى الآن، وعاد إلى بغداد في غرة رجب، وأقام بداره فأدركته المنية في آخر ذي الحجة، فصلي عليه في جامع القصر وحمل إلى مشهد أمير المؤمنين علي عليه السلام.

وفيها، توفي أحمد بن أبي السعود الرصافي الكاتب، كان يخدم ولي العهد أبا نصر محمد بن الخليفة الناصر لدين الله وكان يكتب له أنساب الطير والحمام، وكان يكتب خطاً مليحاً على طريقة ابن البواب وكان معجباً بخطه. كتب نهج البلاغة بخطه ونادى عيه فدفع فيه خمسة دنانير فلم يبعه، ثم نودي في الحال على قوائم، بخط ابن البواب خمسة عشر دينارا، فاستشاط وقال يدفع في نهج البلاغة بخطي خمسة دنانير ويدفع في قوائم بخط ابن البواب خمسة عشر دينارا. وليس بين الخطين كبير فرق ولا سيما هذا التفاوت، ثم ذكر قصة ابن جيوس لما اجيز على قصيدة عملها، الف دينار وتسامع الشعراء فحضر منهم جماعة وعرض كل منهم قصيدة، فلم يعط أحد منهم شيئاً، فكتب أحدهم إلى الممدوح:

على بابك المعمور منا عصابة ... مفاليس فانظر في امور المفاليس

وقد رضيت هذي العصابة كلها ... بعشر الذي أعطيته لابن حيوس

وما بيننا هذا التفاوت كله ... ولكن سعيد لا يقاس بمنحوس

فعجب الحاضرون منه.

سنة ثمان وعشرين وستمائة

 

في المحرم، وصل إلى بغداد مظفر الدين أبو سعيد كوكبري بن زين الدين علي كوجك صاحب أربل، ولم يكن قدم بغداد قبل ذلك، وكان معه محي الدين يوسف بن الجوزي، وسعد الدين حسن ابن الحاجب علي، وكانا قد توجها إليه في السنة الخالية فخرج إلى لقائه فخر الدين أحمد بن مؤيد الدين القمي نائب الوزارة، والأمراء كافة والقضاء والمدرسون وجميع أرباب المناصب، فلقوه على نحو من فرسخ، ولقيه فخر الدين بن القمى بظاهر السور واعتنقا راكبين ثم نزلا، فقال له فخر الدين لما انتهى إلى مقار العز والجلال ومعدن الرحمة والكرم والافضال: لا زالت الأبواب الشريفة ملجأ للقاصدين، والاعتاب المنيفة منهلاً للواردين، وصولك يامظفر الدين رسم أعلى المراسم الشريفة وأسماها، وأنفذ أوامرها في مشارق الأرض ومغاربها وأمضاها، قصدك وتلقيك وأحماد مساعيك أكراماً لك واحتراماً لجانبك، فيقابل ما شملك من الأنعم بتقبيل الرفام، والدعاء الصالح الوافر الأقسام المفترض على كافة الأنام والله ولي أمير المؤمنين. فقبل الأرض حيئذ مراراً، ثم دخلوا جميعاً إلى البلد فلما وصل باب النوبى، ساق فخر الدين ونزل مظفر الدين وقبل الأرض، وعضده الاجل نور الدين أبو الفضل بن الناقد أحد حجاب المناطق بالديوان، ثم ركب وقصد دار الوزارة فلقى مؤيد الدين القمى وجلس هناك، وركب نائب الوزارة وولده وجميع أرباب الدولة والأمراء، وتوجهوا نحو دار الخلافة.

فأما مؤيد الدين وولده وخواصه، فدخلوا من الباب القائمي بالمشرعة. وأما الولاه والأمراء فدخلوا من باب عليان وباب الحرم، وانتهي الجميع إلى تحت التاج على شاطىء دجلة، ووقفوا تحت الدار الشاطئية ذات الشبابيك، ثم استدعى مظفر الدين من دار الوزارة بالأمير عز الدين ألب قرأ الظاهري وبأحد خدم الخليفة، فحضر فرفعت الستارة فقبل الجميع الأرض. وكان قد نصب تحت الشباك الاوسط كرسي ذو درج، فرقي عليه نائب الوزارة واستاذ الدارابن الناقد. ومظفر الدين، وسلم مظفر الدين مشيراً برده إلى الشباك تالياً قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) فرد الخليفة عليه السلام. فقبل الأرض مراراً ثم شكر الخليفة سعيه، فاكثر من تقبيل الأرض والدعاء فاسبلت الستارة وعدل بمظفر الدين إلى حجرة، فخلع عليه فيها، وقلد سيفين وقدم له فرس بموكب ذهباً ومشده ورفع وراءه سنجقان مذهبان وخرج من الباب القائمي المعروف بباب التمر المشرعة، وبه كان قد دخل ومضى والناس في خدمته إلى حيث انزل بدار شمس الدين علي ابن سنقر، بدرب فراشاً وأنزل جماعة من الأمراء الواصلين معه في دور، في عدة محال، وباقي عسكره في المخيم ظاهر البلد وأقيمت له ولاصحابه الاقامات الوافرة، ثم سأل زيارة المشاهد والربط ببغداد فعمل له في كل مكان وليمة، وصلى في جامع القصر جمعتين داخل الرواق إلى جانب المنبر، ثم حضر في منتصف صفر مؤيد الدين القمي نائب الوزارة وولده والجماعة الذين حضروا يوم دخوله وجرت الحال على ما تقدم شرحه، وخاطبه الخليفة بما طابت به نفسه، فقبل الأرض وابتهل بالدعاء، وتلا قوله تعالى (ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين) ثم اسبلت الستارة وخلع عليه في تلك الحجرة، وأعطي كوسات وأعلاماً وخمسين ألف دينار، برسم نفقة الطريق، وبرسم حاشيته، وأصحابه عشرة آلاف دينار. وخرج من هناك إلى دار الوزراة وحضر جميع أصحابه فخلع عليهم بحضورة، وأقام بعد ذلك أياماً ثم خرج إلى مخيمه بظاهر سور سوق السلطان وتوجه إلى بلده، وكانت مدة مقامه ببغداد عشرين يوماً، ومضى معه محي الدين بن الجوزي، وسعد الدين حسن بن الحاجب علي، وعادا في ربيع الأول وأخبرا أن مظفر الدين حلف أمراءه وأعيان بلده، على طاعة الخليفة وتسليم البلد عند وفاته إليه.

وفيها، عزل قاضي القضاة عبد الرحمن بن مقبل، أبا عبد الله محمد بن أبي الفضل الحنفي عن قضاء واسط، وكان قد قلده القضاء في السنة الخالية فأقام بها شهوراً فلم يحمد مجاورة أهلها، واصعد ليقرر قاعدة تمكنه المقام بها من توفير الجاه، فلم يتهيأ له ذلك.

 

وفي صفر، دخل بعض الأتراك إلى دار الوزير مؤيد الدين القمي وطلب غفلة الستري وانتهى إلى مجلسه فلم يصادفه جالساً، وكان بيده سيف مشهور وكان آخر النهار، وقد تقوض الجامعة من الديوان فصاح عليه خادم، فتبادر الغلمان وأمسكوه، وانتهى ذلك إلى مؤيد الدين فجلس وأحضر التركي بين يديه وسأله عما حمله على ذلك؟ فلم يقل شيئاً، فضرب ضرباً مبرحاً، فذكر أنه له مدة لم يصله شيء من معيشته وهو ملازم الخدمة وقد أضر به ذلك، فحمله فقره وحاجته وغيظه على ما فعل فأمر بصلبه فصلب وحط بعد يومين.

وفيها، أنهى إلى الديوان، أن انساناً يهودياً أسلم وتزوج مسلمة ثم ارتد إلى دين اليهود، فأمر بقتله وفاحضر وصلب.

وقطع لسان إنسان جيء به من همذان تحت الاستظهار، نقل عنه أنه ادعى هناك اتصالا بالخليفة المستنصر بالله ثم حمل إلى المارستان فحبس به.

وفيها، اجتاز رجل بباب مسجد وقد نصب عليه خشب ليجعل عليه أضواء لاجل الختمة فوقع عليه جذع قمات وحمل إلى بيته فقال الجيران هذا تخاصم هو وزوجته اليوم فخرج وهو يقول (اشتهيت أن يقع علي شيء حتى أموت وأستريح منكم).

وفي ليلة عيد الفطر، فتح باب في حائط دار الوزارة وجعل عليه شباك حديد وجلس فيه مؤيد الدين القمي نائب الوزارة واستعرض العسكر.

وفي شوال، تكامل بناء المدرسة التي أنشأها شرف الدين أقبال الشرابي بسوق العجم بالشارع الأعظم بالقرب من عقد سور سوق السلطان مقابل درب الملاحين، وكان المتولي لبنائها شمس الدين أبو الأزهر أحمد بن الناقد وكيل الخليفة المستنصر بالله وشرط الواقف، له النظر فيها وفي أوقافها، ثم بعده إلى من يلي وكالة الخلافة، وفتحت في آخر شوال ورتب بها الشيخ تاج الدين محمد بن الحسن الارموي مدرساً، وخلع عليه وعلى الفقهاء والعبيد وجميع الحاشية ومن تولى عمارتها، وحضر جميع المدرسين والفقهاء على اختلاف المذاهب، وقاضي القضاة عبد الرحمن بن مقبل، فجلس في صدر الايوان وجلس في طرفي الايوان محي الدين محمد بن فضلان، وعماد الدين أبو صالح نصر ابن عبد الرزاق بن عبد القادر فكلاهما قد كان قاضي قضاة وعمل من أنواع الاطعمة والحلواء ما تعبى في صحنها قبابا، وحمل من ذلك إلى جميع المدارس والاربطة، وقرئت الختمة وتكلم الشيخ محمد الواعظ ثم جلس المدرس بعده، وذكر دروساً أربعة فأعرب عن غزارة فضله وتوسع علمه، وفيها خلع على الأمير شمس الدين أصلان تكين، خلعة إمارة الحاج، وحج بالناس.

وفيها، توفي بركة بن محمود الساعي المشهور بالسعي والعدو وكان من أهل الحربية سعى من واسط إلى بغداد في يوم وليلة.

ومن تكريت إلى بغداد، في يوم واحد، وحصل له بسبب ذلك مال كثير وجاه عريض، واتصل بخدمة الخليفة الناصر لدين الله وجعله أخيراً مقدماً لرجال باب الغربة، فكان على ذلك إلى أن توفي.

وفيها، توفي الملك الأمجد أبو المظفر بهرام شاه بن فروخ شاه أبن شاهنشاه بن أيوب شاه بن شادي صاحب بعلبك، كان قد ملكها بعد أبيه فانتزعها الملك الاشرف موسى بن العادل أبي بكر محمد بن أيوب منه قهراً، وأخرجه عنها فرحل إلى دمشق وأقام بها. فاتهم بعض مماليكه بسرقة منطقة وحبسه، فوثب عليه ليلاً وقتله فأخذ المملوك وقتل، وكان الملك الأمجد أديباً فاضلاً شاعراً، فمن شعره يقول:

يؤرقني حنين وأذكار ... وقد خلت المعاهد والديار

تناءى الظاعنون فلي فؤاد ... تسير مع الهوادج حيث ساروا

وليلي بعد بعدهم طويل ... فأين مضت ليالي القصار

فمن ذا يستعير لنا عيونا ... تنام ومن رأى عيناً تعار

سنة تسع وعشرون وستمائة

 

وفي هذه السنة، وردت الأخبار بانتشار عساكر الغول في بلاد أذربيجان وتطرقهم إلى ما يقاربها من النواحي والأعمال إلى نحو شهر زور، فأخرج الخليفة المستنصر بالله الأموال وجهز العساكر وأرسل إلى سائر البلاد للجمع والاحتشاد، فورد كتاب مظفر الدين كوكبري صاحب أربل ويسأل انجاده بالعساكر، ليتفق معهم فتقدم الخليفة بخروج العساكر، فبرزوا إلى ظاهر البلد وتجهزوا وساروا ومقدمهم جمال الدين قشتمر الناصري، ومعه من الأمراء، شمس الدين قيران، وعلاء الدين ايلدكن وبهاء الدين ارغش، وفلك الدين زعيم البيات. فساروا قاصدين مظفر الدين كوكبري صاحب أربل فالتقوا به في موضع قريب من الكرخيتي فأقاموا هناك بقية شهر رجب وشعبان، فجرى بين بعض مماليك الخليفة وبيطار من أصحاب مظفر الدين صاحب أربل خصومة، فعاونه جماعة من أصحابه فانتشب بسبب ذلك بين العسكرين فتنة أدت إلى قتل وجراح، فركب مظفر الدين بسلاحه وكذلك أصحابه، ثم وقف في باطن دهليز سرادقة، وكادت الحرب تنشب بينهم، فركب جمال الدين قشتمر بغير سلاح ولا مداس، ومنع غلمانه ومماليكه من متابعته، ودخل في غمار الوقعة وقصد خيمة مظفر الدين صاحب أربل، فوجده راكباً بالعدة الكاملة، يحرض أصحابه على القتال فلاطفه وخجله وقبح له ذلك، فعرف وجه الصواب، فرجع عما كان عزم عليه، وسكنت الفتنة، ثم اتفقوا على الرحيل إلى مدينة شهر زور لأنهم بلغهم أن المغول قد وصلوا ساميان وحاصروا حاصبك، فنفذ جمال الدين قشتمر جماعة طلائع، وجعل مقدمهم ارتر العراقي، ثم رحلوا في ثامن شهر رمضان ونزلوا في موضع يعرف بالاكراد، فورد الخبر إليهم بوصول أمين الدين كافور خادم الخليفة المستنصر بالله فركب جمال الدين قشتمر ومظفر الدين صاحب أربل، وجميع الأمراء للقائه فاجتمعوا به وعرفهم ما أمر به الخليفة ثم عاد في سحرة تلك الليلة إلى بغداد وأحضر في تاسع رمضان عند جمال الدين قشتمر، ثلاثة نفر وامرأة من المغول فسألهم عن أخبارهم، فذكروا أنهم فارقوهم راجعين من مراغة فأخذ عليهم شروط الاسلام فأسلموا فضمهم إليه ثم رحلوا وساروا حتى عبروا الدربند، فوصل إليهم الدكز مخبرا أنهم صادفوا يزكا منهم على غرة، وجرت بينهم هوشة وأن المغول استظهروا عليهم لكثرتهم ومعرفتهم بالأرض، وقتلوا مقدم الطلائع وجماعة من العسكر، فعند ذلك جدوا في السير فوصلوا شهر زور ونزلوا بقرية يقال لها موغان غربي شهر زور فلم يمكنهم المقام هناك لعدم الماء العذب فيه، ومات في ذلك المنزل خلق كثير بهذا السبب فعند ذلك أظهر مظفر الدين صاحب أربل المرض وشدته، فدخل إليه جمال الدين قشتمر عائدا فوجده ملقي على ظهره، فقال لا غناء لي عن التوجه إلى بلده، وطلب منه ولده شرف الدين علي وقال يكون معي إذا مت يتسلم البلد، وطلب أيضاً الأمير سعد الدين حسن بن الحاجب علي، ليسلم إليهما خفيتان، فأجابه إلى ذلك فتوجه مظفر الدين قاصداً بلده وتوجه قشتمر إلى الكرخيتي. وأما مظفر الدين فإنه وصل إلى أريل وأقام شرف الدين وسعد الدين عنده أياماً ثم سرحهما فعادا إلى الكرخيتي، وأخبراه أنه في أتم عافية وأن ذلك كان حيلة منه، وكان جمال الدين قشتمر قد نفذ الأمير ابن حسام الدين طرغل ونور الدين الدكز إلى الدربند يزكا، فذهبا يتصيدان فما أحسا إلا وقد أحاط المغول بخيمهما فأخذوها وما فيها، فلما بلغ ذلك جمال الدين قشتمر ركب بمن معه وصعد رأس الجبل هناك واعتبر العساكر فلم يجد إلا الأمراء والمماليك ومتميزي الأجناد، وترقب وصول المغول فأسفرت الحال عن يزك كان لهم، وأن قطعة منهم بالدربند فاقتضى رأيه الرجوع، والنزول في المنزل تطييباً للناس من النفور والانزعاج، فحضر جميع الامراء عنده وظهير الدين الحسن بن عبد الله عارض الجيش، ودارت المشورة بينهم في كيفية لقاء عدوهم فكل منهم أشار بشيء، إلا عارض الجيش فإنه قال: الرأي معكم فاتفقوا على الرحيل ليلاً من غير طبل ولا شغل، والمسير إلى شهر كرد فهناك وطأة واسعة وأرض فسيحة تصلح للحرب فرحلوا همسة من غير حركة تسمع، فصبحوا شهر كرد: وأما من كان معهم من العساكر الغرباء فأنهم رحلوا متفرقين كل منهم طلب بلده، وأقام جمال الدين قشتمر ومن معه من العساكر فلم يقدم أحد المغول إلى محاربته فأنهى ذلك إلى الديوان فتقدم إليه بالعود فرحل قاصداً مدينة السلام فلم يؤذن له في دخول البلد

 

فأقام بظاهره إلى صفر، سنة ثلاثين وستمائة، ثم أذن له الدخول.فأقام بظاهره إلى صفر، سنة ثلاثين وستمائة، ثم أذن له الدخول.

وفي هذه السنة، نقل عبد الله بن ذبابة، ما اقتضى ضربه على باب النوبى، وقطع لسانه واحضاره إلى البصرة، والزامه المقام بها.

وفيها، جرت فتنة بين أهل باب الازج وبين أهل المختارة وتراموا بالبندق والمقاليع والآجر وتجالدوا بالسيوف فقتل من الفريقين، وجرح جماعة فتقدم في عشية اليوم التالي بخروج الجند وكفهم عن ذلك، فخرج نائب باب النوبي ومعه جماعة من الجند وكفهم وقبض على جماعة منهم فضربهم وقطع أعصابهم، فسكنت الفتنة.

وفيها، صعد إنسان إلى الشيخ محمد الواعظ وهو على منبر وعظه بباب بدر ومعه سمان وقال أني رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام، وقال لي لا أحمل هذا السمان إلى محمد الواعظ وقل له يعطيه للخليفة، فاستيقظت وهو في يدي، فقال له أمسكه معك إلى حين فراغ المجلس، فانهيت الحال إلى الخليفة فتقدم بأن يعزر ويوكل به على كذبه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وفيها، قلد قاضي القضاة عبد الرحمن بن مقبل الواسطي أحمد ابن عنتر الهمامي، قضاء واسط وخلع عليه فخرج والبسملة بين يديه متوجها إلى داره فاجتاز على دار الوزارة وكان مؤيد الدين القمي جالساً في الشباك فانكره وسأل عنه فعرف الصورة ولم يكن قاضي القضاة استأذنه في ترتيبه، فانكر الحال على قاضي القضاة، فنفذ في الحال إلى المذكور وكيلا شافعاً بالعزل، ثم أنه بعد ذلك شفع إلى الوزير في ابن عنتر فتقدم إلى قاضي القضاة باعادته، فأعاده.

وفيها، أذن الخليفة المستنصر بالله لولده الأمير المؤيدي أحمد عبد الله أن يوكل العدل، عبد الوهال بن المظفر وكالة شرعية فوكله، وأشهد على نفسه بذلك العدلين على بن النيار مؤذبه، ومحمد بن حديد.

وفيها، تقدم الخليفة إلى الأمير شمس الدين باتكين زعيم البصرة بعمارة جامعها وتجديده وأحكامه وتشييده، وانشاء مارستان هناك وأن يكون الغرامة عليه من خالص مال الخليفة وآن توقف عليه وقوفاً سنية موفرة الحاصل.

ذكر عزل الوزير مؤيد الدين القمي

وولاية نصير الدين أبي الازهر أحمد بن الناقد

في يوم السبت سابع عشر شوال، تقدم إلى مؤيد الدين أبي طالب محمل بن أحمد بن العلقمي مشرف دار التشريفات يومئذ أن يحضر عند استاذ الدار شمس الدين أبي الأزهر أحمد بن الناقد ويتفقا على القبض على نائب الوزارة مؤيد الدين القمي فجمع استاذ الدار رجال النوبتين وأمرهم بالمبيت في دار الخلافة ولم يشعر أحداً منهم بشيء فلما أغلق بابا النوبي والعامة، عين على جماعة مع ابن شجاع مقدم باب الأتراك، بالقبض على القمي إذا فتح باب النوبي، وعين على جماعة مع حسن بن صالح المعمار للقبض على ولده في الساعة المعينة، وعين جماعة للقبض على أخيه وجميع أصحابه وخواصه، فلما فتح باب النوبي خرج الجميع بالسيوف وهجموا عليه وعلى ولده وأخيه وجميع أصحابه في ساعة واحدة فلم يفلت منهم صغير ولا كبير. فأما هو وولده فنقلا ليلا إلى باطن دار الخلافة فحبسا هناك. وأما بناته ونساؤه فنقلن إلى دار بالقصر من دار الخلافة. وأما أخوه ومماليكه وأصحابه فحملوا إلى الديوان.

وفي يوم السبت المذكور. استدعي استاذ الدار شمس الدين أبو الأزهر أحمد بن الناقد إلى دار الخلافة، وخلع عليه نيابة الوزراء وقلد سيفا وقدم له مركب بمركب ذهباً وركب من باب البستان المقابل لدار التشريفات وبين يديه جميع الحجاب وقد تقدمه إلى الديوان جميع أرباب الدولة فدخل إليه وجلس في الموضع الذي جرت عادة نواب الوزارة بالجلوس فيه، وكتب والأنهاء وبرز الجواب فقرأه قائماً على الحاضرين، وأمر الخليفة بأن يخاطب بخطاب الوزير أبي الحسن ناصر بن المهدي العلوي وهو المولى الوزير الأعظم الصاحب الكبير المعظم، العالم العادل، المؤيد المظفر المجاهد نصير الدين صدر الإسلام، غرس الإمام، شرف الأنام، عضد الدولة، جلال الملة، مغيث الأمة، عماد الملك، اختيار الخلافة مجتبى الأمانة المكرمة، تاج الملوك، سيد صدور العالمين، ملك وزراء الشرق والمغرب، غياث الورى، أبو الأزهر أحمد أبن محمد أبن الناقد ظهير أمير المؤمنين، ووليه المخلص في طاعته، الموثوق به في صحة عقيدته.

 

وفي يوم الاثنين تاسع عشر شوال ولي مؤيد الدين أبو طالب محمد بن العلقمي استاذية الدار، وخنع عليه في دار الوزارة وركب في جمع كثير واسكن في الدار المقابلة لباب الفردوس، ولما قبض على القمي، قال الشعراء في ذلك أشعار كثيرة منها ما قاله الحاجب محمد بن عبد الملك الوظائفي وحرض الخليفة على قتلهما بألفاظ رمات البندق. وهو:

لقد انتحى المستنصر المنصور ... يوم المكين كما انتحى المنصور

ملك الخراساني ذاك ببغية ... وكذا خراسانينا المأسور

لا تبقه ياخير من وطىء الحصا ... فالحزم أن لا يهمل الموتور

وأفصم عرى عنق القصير فدونه ... في المكر والكيد الوكيد قصير

مولاي في وجه العداة صرعت ... مصطحباً وطير المخر فيه وكور

أخليت منه الجو في ندب وكم ... حامت عليه ولم تنله نسور

خيشته لكن مفيقا فاتبع ... ما سنه في البندق الجمهور

والرأي تذكية المفيق فإنه ... مازال يملك روعة ويطير

فالكي مخلفه لديه واضع ... في حده عضد له وظهير

لا تأمنن عليهما في محبس ... ضنك فعندهما له تدبير

كم هارب من قلة في قلعة ... ولكم نجا بقيوده مطمور

فاقتلهما بالسيف أحوط حارس ... لهما وهذا أول وأخير

ضل المكين بكل ما صنعت به ... آراؤه في دسته المغرور

وتر الخلافة بالخلاف ولم يكن ... قد رد تدبير الملوك وزير

فعزمت فيه عزمة نبوية ... كادت لسطوتها السماء تمور

حرست ثغور المسلمين بعزلة ... وتبسمت للعالمين ثغور

وفيها، ولي جمال الدين علي ابن البوري حجابة باب النوبي، وفيها، قطع الشيخ محمد المعروف بالواعظ عن الوعظ ومنع من الجلوس بباب بدر، وكذلك العدل اسماعيل بن النعال الواعظ.

وفي ذي القعدة، استناب نصير الدين أبو الأزهر أحمد بن الناقد نائب الوزارة أخاه جمال الدين عبد الله في الوكالة ليتوفر هو على أمر الوزارة، وفيه، انعم الخليفة على الأمير علاء الدين الطبرسي المعروف بالدويدار، الكبر بالدار المقابلة لباب الحرم المجاورة لداره، وانتقل عنها معلى بن الدباهي.

وحج بالناس في هذه السنة الأمير شمس الدين أصلان تكير الناصري.

وفيها، توفى أبو بكر محمد بن عبد الغني المعروف بابن نقطة وكان على طريقة حميدة وقاعدة جميلة، عني بعلم الحديث وسماعه، وسافر البلاد في طلبه.

وفي خامس شوال، توفي جمال الدين محمد بن علي بن خالد الكاتب شيخ فاضل عالم بالسير والأخبار، كتب بخطه كثيراً وجمبع عدة مجاميع، واختصر كتاب الأغاني للاصفهاني وخدم في عدة أعمال. منها كتابة المخزن وخزانة الغلات بباب المراتب، وأشراف البلاد الحلية وغير ذلك، وصنف كتاباً في علم الكتابة وسماه جوهر اللباب في كتابة احساب.

سنة ثلاثين وستمائة

في المحرم، قلد العدل مجد الدين أبو القاسم هبة الله بن المنصوري الخطيب، نقابة نقباء العباسيين والصلاة والخطابة وخلع عليه قميص اطلس بطراز مذهباً ودراعة خارا اسود، وعمامة ثوب خارا اسود مذهب بغير ذوابة، وطيلسان قصب كحلي، وسيف محلى بالذهب وامتطى فرساً بمركب ذهباً، وقرىء بعض عهده في دار الوزارة وسلم إليه، وركب في جماعة إلى دار أنعم عليه بسكناها في المطبق من دار الخلافة وأنعم عليه بخمسمائة دينار، وهو من أعيان عدول مدينة السلام وأفاضل أرباب الطريقة المتكلمين بلسان أهل الحقيقة. كان يصحب الفقراء دائماً ويأخذ نفسه بالرياضة والسياحة والصوم الدائم والتخشن التباعد من العالم، وكان الموفق عبد الغافر ابن الفوطي من جملة تلامذته فعمل فيه أبياتاً طويلة، لما انتهى حالها إلى الديوان أنكر ذلك عليه ووكل به أياما ولم يخرج إلا بشفاعته، وأول الأبيات:

في دسته جالسا ببسملة ... بين يديه أن قام في أدب

وركبة منه كنت أعهده ... يذم أربابها على الرتب

وكان أبناؤها لديه على ... سخط من الله شامل الغضب

أصاب في الرأي من دعاك لها ... وأنت لما أجبت لم تصب

 

أول صوت دعاك عن غرض ... لبيته مقبلا على السبب

ويقول فيها:

قد كنت ذاك الذي تظن به ... لو لم تكن مسرعاً إلى الرتب

شيخي أين الذي يعلمنا الز ... هد ويعتده من القرب

أين الذي لم يزل يسلكنا ... إلى خروج عن كل مكتسب

أين الذي لم يزل يعرفنا ... فضل العتري بالجوع والتعب

ومنها:

أين الذي لم يزل يرغبنا ... في الصوف لبسا له وفي الجشب

وأين من غرنا بزخرفه ... متى اعتقدناه زاهد العرب

وأين ذاك التجريد يشعرنا ... أن سواه في السعي لم يخب

وأين من لم يزل يذم لنا ... الدينا وقول المحال والكذب

وأين من لم يزل بأدمعه ... يخدعنا باكياً على الخشب

وأين من كان في مواعظه ... يصول زجراً عن كل مجتذ ب

ويقطع القول لا يتممه ... منظبا بالسماع والطرب

يقسم الغمر أنه رجل ... ليس في الوجود من أرب

لو كانت الأرض كلها ذهباً ... أعرض عنها أعراض مكتئب

أسفر ذاك الناموس مختيلاً ... عن راغب في التراث مستلب

وكان ذاك الصرخ يزعجنا ... شكوى فقير على الدنا وصب

شيخي بعد الذم الصريح لما ... أبينه جئته على طلب

نسيت ما قلته على ورع ... عني لما اكتسبت بالدأب

ويل له أن يمت بخدمته ... يمت كفوراً وليس بالعجب

ما كان مال السلطان مكتسباً ... لمؤمن سالم منالعطب

هذا ورزقي من وقف أربطه ... قدر طفيف أعطاه بالتعب

ولست في ثروة أسر بها ... دنياي منها موفورة النشب

فليت شعري ماذا أقول ... وقد حلت منها في مرتع خصب

أعطيت كراثة فتهت بها ... عن طلب كان أشرف الطلب

لو أنها نجمة خشيت على ... دينك شركا يكون عن كثب

وأن ذاك الحنيك منعطفا ... لجام من يدعي ولم ينب

شيخي بعد التفضيل منتقيا ... ثوباً قصيراً مجاوز الركب

اختلت في ملبس ذلاذله ... تسحب من طولها على الترب

يرفعها كل شادن غنج ... يفتن نساكنا على الرهب

واعتضت من عصي الزهادة من ... حولك مشي الغلمان بالقضب

لو كنت والله زاهداً ورعاً ... لم ترضى دنيا الغرور باللعب

وكان في الله شاغل أبداً ... عما تراه بعين محتجب

لا يغتر بعد ذا أخو ثقة ... بمحسن في جميل مطلب

وليتعظ مدعي تقريه ... بحال شيخي الفتون وليتب

فكتب النقيب قطب الدين الحسن بن الاقساسي إلى النقيب مجد الدين المذكور أبياتاً كالمعتذر عنه والمسلي له، يقول في أولها:

أن صحاب النبي كلهم ... غير علي وآله النجب

مالو إلى الملك بعد زهدهم ... وضطربوا بعده على الرتب

وكلهم كان زاهدا ورعاً ... مشجعاً في الكلام والخطب

فأخذ عليه فيها مآخذ فيما يرجع إلى ذكر الصحابة والتابعين وتصدى له جماعة وعملوا قصائد في الرد عليه، وبالغوا في التشنيع عليه، حتى أن قوما استفتوا عليه الفقهاء ونسبوه إلى أنه طعن في الصحابة والتابعين ونسبهم إلى قلة الدين فافتاهم الفقهاء بموجب ما صدرت به الفتيا.

وفيها، قدم راجح بن قتادة مكتة شرفها الله تعالى في جمع كبير ودخلها واستولى عليها، وطرد من كان بها من عساكر الكامل أبي المعالي ودخلها واستولى عليها، وطرد من كان بها من عسكر الكامل أبي المعالي محمد بن العادل صاحب مصر، فلما بلغ الكامل ذلك أرسل إلى مكة عسكرا فلما علم راجح بقدومهم نزح عنها فدخلها العسكر بغير محاوبة، وطبيوا قلوب أهلها وأحسنوا إليهم، بخلاف ما فعل راجح لما وليها

 

وفيها، حصر الكامل أبو المعالي المذكور مدينة آمد، وضيق على أهلها وأضعفهم بقلة الميرة وغيرها، واستولى عليها وملكها عنوة، وكان صاحبها الملك مسعود الدوادار الملك.

وفيها، رد النظر في أوقاف مدارس الحنيفة والربط وجامع السلطان إلى فخر الدين أبي طالب أحمد ابن الدامغاني مشرف الديوان وكفت يد نواب قاضي القضاة ابن مقبل عنها.

وفيها، وصل الأمير حسام الدين أبو فراس بن جعفر بن أبي فراس الذي كان أمير الحاج في الأيام الناصرية وقد تقدم ذكر مفارقته للحاج مسيره إلى الشام، ومصر، ملتجأ إلى الكامل أبي المعالي محمد بن العادل، هرباً من الوزير القمي وحدراً من قصيدة أياه، فلما بلغه عزله كاتب الديوان واستأذن في العودة فأجيب سؤاله فلما وصل إلى مدينة السلام، حضر عند نصير الدين بن الناقد نائب الوزارة فخلع عليه ومضى إلى داره بسوق العجم ثم استدعي بعد أيام وخلع عليه وأعطي سيفاً محلى بالذهب وأمطي فرساً وأعطي سبعة أحمال كوسات وأعلاماً، وضم إليه جماعة من العسكر وأقطع بلد دقوقاً.

وفيها، صرف تاج الدين أبو الفتوح علي بن هبة الله بن الدوامي، عن أشراف دار التشريفات وخرج راجلاً إلى داره، ورتب عوضه تاج الدين أبو المظفر محمد بن الضحاك.

وفي جمادى الآخرة، فرج عن ولد مؤيد الدين القمي وجميع أصحابه وأتباعه.

وفي شهر رمضان، فتحت دور الضيافة بجانبي مدينة السلام جرياً علي العادة في كل سنة وزيد فيها داران أحداهما بدار الخلافة لاولاد الخلفاء المقيمين في دار الشجرة، والأخرى بخربة ابن جردة، للفقراء الهاشميين.

وفي هذه السنة، سير جمال الدين بكلك الناصري إلى قلعة زرده ومعه عدة من العسكر، فحصرها وضيق على من بها وجرت بينهم حروب كثيرة وقتال شديد، فملكها عنوة وقهراً واستولي عليها وأرسل إلى الخليفة يعرفه ذلك، فاستبشر به ونظم الشعراء في ذلك أشعاراً كثيرة.

ذكر فتح أربل

في سابع عشر شهر رمضان، ورد الخبر إلى بغداد بوفاة مظفر الدين أبي سعيد كوكبري بن زين الدين علي كوجك صاحب أربل فتقدم الخليفة بتعيين جماعة من الأمراء يكون مقدمهم الأمير أرغش الناصري الرومي، وعلاء الدين الدكز الناصري للتوجه إلي أربل وتقدم إلى ظهير الدين أبي علي الحسن بن عبد الله عارض الجيش بالتوجه أيضاً فتوجهوا مصعدين في خامس عشر الشهر.

 

وفي ثالث شوال، توجه شرف الدين أبو الفضائل أقبال الشرابي بالعسكر فوصلوا في ثالث عشر شوال، وكان في القلعة خادمان أحدهما اسمه برنقش والآخر اسمه خالص، كانا قد كتبا إلى الخليفة وإلى عماد الدين زنكي صهر مظفر الدين والي بني أيوب حيث ثقل مظفر الدين في المرض يعرفانهم ذلك وقالا: من سبق إلينا كانت منتنا عليه. وكتبا إلى الملك الصالح أيوب بن الكامل أبي المعالي محمد يعلمانه بموته ويحثانه على المجيء فلما شاهدا عساكر الخليفة سقط في أيديهما وعلما أنه قد انتهى إلى الخليفة ما فعلا فامتنعا من فتح البلد فلما رأى الشرابي أنهم أغلقوا أبواب المدينة دونه، استدعى الأمير جمال الدين قشتمر وقال له: ما لهذا الأمر سؤال وإذا فعلت شيئاً لا يسع غيرك إلا موافقتك فركب في الحال من غير استراحة ودار ليله أجمع حول البلد وهم على السور، بالاضواء والطبول ثم قسم أبواب البلد على الأمراء وضرب هو خيمة مقابل باب عمكا واللونه أعظم الأبواب وأكثر المقاتلة هناك، ونصب البيت الخشب مقابل الباب بالقرب منه بحيث يسمع كلامهم ويسمعون كلامه، ويصل نشاب الجرخ إليه ولم يزل نهاره أجمع يرقب ما يعملون ويشاهد ما يصنعون وفي الليل يدور على العساكر ويحرض على الحراسة والحفظ، والشرابي يراسل الخادمين المذكورين ويخوفهما عاقبة العصيان فسألا أن يؤخرا يومين فأجيبا وكان وغرضهما أن يصل الملك الصالح أيوب المقدم ذكره، فلما انقضى الامد نفذ جمال الدين قشتمر إلى أحد زعمائهم وقال له: أخلفتم الوعد، وخوفهم وحذرهم، فرد عليه جواباً غير مرضي ثم رمى وراء رسوله بالنشاب فوقع قريباً من الاطناب فقال قشتمر لجماعة من مماليكه أقربوا منهم وتحرشوا بهم فأخذوا في سبهم ورموا بالنشاب إلى جهتهم فما زال الأمر يزداد حتى وقع الزحف على البلد وقت العصر واشتد الرمي من فوق السور بالنار وأنواع السلاح، وكثر في الفريقين القتل والجراح وسار قشتمرحتى وقف على الخندق فاشتد القتال حينئذ وقوي جأش المقاتلين بوجوده فركب الشرابي في لامة حربه ووقف على نشز فأخبر قشتمر بركوبه فقصده ووقف إلى جانبه، فساعة اجتماعمها أخبرا بالنصر والفتح وتسليم القلعة، ونهب أوباش العسكر بعض دورها، واستولى العسكر على البلد عنوة، وكتب الشرابي على جناح طائر إلى الخليفة بصورة الحال فحصل الاستبشار بذلك وضربت الطبول على باب النوبي، وأفرج عن جميع المعتقلين في الحبوس وحضر الشعراء في الديوان و أوردوا قصائد تتضمن الهناء بهذا الفتج والنصر. فمن أورد القاضي أبو المعالي القاسم بن أبي الحديد المدائني قصيدة أولها:

مايثبت الملك بين الخوف والخطر ... حتى يقام ويسقى من دم البشر

لكل شيء طريق يستفاد به ... وليس للعز غير الصارم الذكر

ومنها:

مافتح أربل عن بخت لذي دعه ... ولا اتفاقاً كبعض النصر والظفر

لكنه كان قصد القادرين وأف عال المطيعين عن قصد وعن فكر

فليسمح الاشعري اليم لي فأنا ... في فتح أربل لا الوي على القدر

وقال أخوه عز الدين عبد الحميد الكاتب قصيدة، اتفق له فيها أن الوزير كان ترتيبه يوم سابع عشر شوال سنة تسع وعشرين وفتح أربل يوم سابع عشر شوال سنة ثلاثين فقال:

يا يوم سابع عشر شوال الذي ... رزق السعادة أولا وأخيرا

هنئت فيه بفتح أربل مثلما ... هنئت فيه وقد جلست وزيرا

 

وتقدم الخليفة، باحضار الأمير شمس الدين باتكين أمير البصرة فكوتب بالحضور فوصل من البصرة إلى رابع ذي القعدة، وحضر نصيرالدين أبن الناقد نائب الوزارة فشافهه بولاية أربل وتقدم إليه بالتوجه إليها على فوره، فتوجه من وقته فوصلها في تاسع عشر الشهر وحضر عند شرف الدين أقبال الشراب في المخيم يظاهر أربل، فخلع عليه وقلده سيفاً وأمطاه فرساً وأعطاه كوسات واعلاماً، فركب في جمع كثير من الأمراء والأجناد ودخل الجامع فقرىء عهده به بمحضر من أهل البلد وغيرهم، تولى قرأته ظهير الدين الحسن بن عبد الله، وكان قد عين عليه لوزارته، وركب إلى القلعة ونزل في دار الإمارة التي كان يسكنها مظفر الدين، ثم خلع الشرابي على ظهير الدين الحسن بن عبد الله ثم على ظهير الدين الحسن بن المصطنع وجعله مشرفاً عليه، ورتب معها كاتباً الاجل ابن عبدان النصراني ثم رتب جمال الدين أبن عسكر الانباري عارضاً للجيش هناك، وجعل عليه مشرفاً عز الدين محمد بن صدقة وخلع عليهما فلما قرر القواعد وفرغ مما يريده، رحل عائداً إلى بغداد والأمراء والعساكر في خدمته، فوصل ظاهر إلى الخالص في عاشر ذي الحجة فنزل بقرية تعرف - بقرية أبي النجم - فخرج الخلق الكثير إلى تلقيه فصلى هناك ونحر وضحى ومد سماطاً عظيماً، ثم رحل في حادي عشر ذي الحجة متوجها إلى بغداد فلما وصل ظاهر سوق السلطان خلع على جميع أصحابه ومن كان في خدمته من النواب والاتباع والحاشية، وخرج إليه جميع الولاة وأرباب المناصب والاماثل والاعيان فلقوه بظاهر السور ولم يخلف أحد من الخروج سوى الوزير، ثم سار حتى وصل دجلة ونزل عند المسناة في شبارة الخليفة وقبلها وتضرع بالدعاء وبكى فخشع الحاضرون لبكائه ثم نزل فيها وانحدر إلى دار الخلافة فتلقي بالاكرام ثم خلع عليه وقلد سيفين وقدم له فرس فركبه من باب البستان ورفع وراءه سنجقان، وأما الأمراء جميعهم فأنهم دخلوا البلد وقصدوا دار الخليفة، ودخلوا من باب الحرم بموجب ما رسم لهم وجلسوا في باب الأتراك إلى أن خرج راكباً فقبلوا يده ومشوا بين يده إلى باب الباتني ثم ركبوا وساروا في خدمته إلى داره بالبدرية فلما نزل عن مركوبه خدموا وعادوا قاصدين دار نصير الدين نائب الوزارة فلقوه فخلع عليهم اجمعين، وأعطى كل واحد فرساً بمركب وخمسة آلاف دينار وأنعم على من دونهم على قدر مرتبته من الالفين إلى الخمسمائة، ثم خلع على جميع المماليك الناصرية والظاهرية والمستنصرية وأعطى كل واحد خمسين ديناراً، ثم أنعم على جميع الجند ومماليك الأمراء والعرب من ثلاثين إلى خمسة عشر، ثم أحضر علاء الدين أبو طالب هاشم بن الأمير السيد العلوي وولي عارض الجيش، وخلع عليه بدار الوزارة عوضاً عن ظهير الدين بن عبد الله، وولي الأمير أرغش الرومي الناصري إمارة البصرة وخلع عليه وتوجه إليها.

ذكر عدة حوادث

وفي هذه السنة، دخل قوم على رجل يعرف بابن اللؤلؤي داره بالعنوتين وقتلوه، ظناً أنه معه ذهباَ فلم يروا معه شيئاً ولم يعرف لهم خبر.

وفيها. خنق إنسان يعرف بمحمد الخياط نسيب لبني ياسين نفسه بحبل في داره باللوزية قيل أنه كان شديد الضائقه وعنده تعفف وعزوف نفس عن الطلب.

وفيها، توفي أبو محمد عبد الله بن الشيخ أبي النجيب السهروردي، من بيت التصوف وأولاد المشائخ، ذكر أنه خرج عن جميع ماله ووقفه، فلما قدم الشيخ شهاب الدين عمر السهروردي قدم على غاية الفقر مجردا من الدنيا فضاق صدر الشيخ أبي النجيب كيف لم يرضخ في الوقف بنصيب، فسأل ولده أن يعطيه شيئاً من نصيبه فلم يوافق فقال له الشيخ أبو النجيب وقد احتد: والله لتحتاجن إليه، ومضى على ذلك برهة فتقدم الشيخ شهاب الدين وأثرت حاله وفتحت عليها الدينا فأحتاج عبد الله هذا إليه واسترفده وما زال يواصله إلى أن مات.

وفيها، توفي أبو المحاسن محمد بن نصر الأنصاري المعروف بابن عنين الكوفي أصلا، ولد بدمشق ونشأ بها، وهو شاعر مشهور سافر إلى الآفاق في التجارة ومدح الأكابر في كل البلاد، وكان ظريفاً حسن الأخلاق جميل المعاشرة ذا ثروة، وكانت وفاته بدمشق، وحج بالناس في هذه السنة، الأمير شمس الدين أصلان تكين.

سنة أحدى وثلاثين وستمائة

في المحرم، أعيدت الحلة السيفية إلى الأمير جمال الدين قشتمر الناصري وتوجه إليها.

 

وفيها، نفذ الأمير بدر الدين سنقرجاه الظاهري أمير آخور الخليفة المستنصر بالله إلى الموصل ومعه خلعة السلطنة وتقليد لبدر الدين لؤلؤ الرومي الاتابكي صاحب الموصل، فخلع عليه وأمطاه فرساً بمركب ذهباً، وكنبوش أبريسما، وسيف ركاب ومشدة في عنق الفرس، ولقب الملك المسعود وأذن له أن يذكر اسمه على المنابر ببلده ونقشه على سكة العين والورق.

وفيها ولي تاج الدين أبو الفتوح علي بن هبة الله بن الدوامي، عارض الجيش، عوضاً عن علاء الدين هاشم بن الأمير السيد، وعزل الأمير شمس الدين أصلان تكين عن إمارة الحاج، وولي شمس الدين قيران الإمارة مرة ثانية.

وفيها، عزل يحيى بن المرتضى النيلي عن النظر بواسط، وولي عوضه قوام الدين علي بن غزالة المدائني.

ذكر فتح المدرسة المستنصرية

في جمادي الآخرة، تكامل بناء المدرسة المستنصرية التي أمر بانشائها الخليفة المستنصر بالله، وكان الشروع فيها في سنة خمس وعشرين وستمائة، وأنفق عليها أموال كثيرة، فركب نصير الدين ابن الناقد نائب الوزارة في يوم الاثنين خامس عشر جمادي الآخرة وقصد دار الخلافة واجتاز بها إلى دجلة، ونزل في شبارة من باب البشرى مصعداً إلى الدار المستجدة المجاورة لهذه المدرسة، وصعد إليها وقبل عتبتها ودخلها وطاف بها ودعا لمالكها، وكان معه استاذ الدار مؤيد الدين أبو طالب محمد بن العلقمي، وهو الذي تولى عمارتها، ثم عاد متوجها إلى داره في الطريق التي جاء بها وخلع على استاذ الدار وعلى أخيه أبي جعفر وعلى حاجبه عبد الله بن جمهور وعلى المعمار والفراشين المرتبين في الدار المذكورة المستجدة وعلى مقدمي الصناع، ونقل في هذا اليوم إلى المدرسة من الربعات الشريفة والكتب النفيسة المحتوية على العلوم الدينية والأدبية ما حمله مائة ستون حمالاً، وجعلت في خزانة الكتب، وتقدم إلى الشيخ عبد العزيز شيخ رباط الحريم بالحور بالمدرسة واثبات الكتب واعتبارها، وإلى ولده العدل ضياء الدين أحمد الخازن بخزانة كتب الخليفة التي في داره أيضاً فحضر واعتبرها ورتبها أحسن ترتيب مفصلاً لفنونها ليسهل تناولها ولا يتعب مناولها.

وفي بعض هذه الأيام، حضر الخليفة هناك، وحضر الشيخ عبد العزيز بين يديه وسلم عليه، وأعقب دعائه بأن تلا قوله تعالى (تبارك الذي أن شاء جعل لك من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصوراً) فبدأ خشوع الخليفة وتقاطرت دموعه.

وفي يوم الخميس خامس شهر رجب، حضر نصير الدين نائب الوزارة وسائر الولاة والحجاب والقضاة المدرسون والفقهاء ومشايخ الربط والصوفية والوعاظ والقراء والشعراء وجماعة من أعيان التجار الغرباء إلى المدرسة، وتخير لكل مذهب من المدارس وغيرها اثنان وستون نفساَ، ورتب لها مدرسان ونائبا تدريس، أما المدرسان فمحيي الدين أبو عبد الله محمد بن يحيى بن فضلان الشافعي ورشيد الدين أبو حفص عمر بن محمد الفرغاني الحنفي، وخلع على كل واحد منهما جبة سوداء وطرحة كحلية وأمطي بغلة بمركب جميل وعدة كاملة، وأما النائبان فجمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن أبن يوسف بن الجوزي الحنبلي، ونيابة عن ولده لأنه كان مسافراً في بعض مهام الديوان، والآخر أبو الحسن علي المغربي المالكي وخلع على كل واحد منهما قميص مصمت وعمامة قصب، ثم خلع على جميع المعيدين وهم لكل مذهب أربعة خلعاً بالحكاية، ثم خلع على المتولين للعمارة والصناع والحاشية وعلى المعينين للخدمة بخزانة الكتب، وهم الشمس علي بن الكتبي الخازن والعماد علي بن الدباس المشرف والجمال ابراهيم بن حذيفة المناول، ثم مد سماط في صحن المدرسة أجمع فكان عليه من الاشربة والحلواء وأنواع الأطعمة ما يجاوز حد الكثرة فتناوله الحاضرون تعبئة وتكويراً ثم أفيضت الخلع على الحاضرين من المدرسين ومشايخ الربط والمعيدين بالمدارس والشعرا والتجار الغرباء، ثم أنشد الشعراء المدائح فيها وفي منشئها: فممن أورد العدل أبو المعالي القاسم بن أبي الحديد المدائني الفقيه الشافعي:

ما مثل الفلك العظيم لمبصر ... في الأرض قبل أيالة المستنصر

هذا بناء معرب عن قدرة ... رفعت قواعده بفعل مطهر

حسدت به الأرض السماء ولم يزل ... حسد الفضائل في طباع الغصر

 

أنظر تجد نظم الثريا في ذرى ... شرفاته وضياء نور المشتري

ضحك الزمان وذاك بعد عبوسه ... ورأى الصواب وذالك بعد تحير

فالأفق بين مفضض ومذهب ... والجو بين مكوفر ومعنبر

والأرض حاسرة القناع كأنها ... خود تبرج في رداء أخضر

تزهو بما عمر الخليفة فوقها ... علما لاحكام البشير المنذر

بالجانب الشرقي باشاطي الذي ... هو طور سينا كل صاحب منبر

ومنها:

ماحق دجلة أن تفوه بلفظة ... قهرت وأي مساجل لم يقهر

غلب العطاء الماء فيها وانثنى ... سدا يفوق صناعة الاسكندر

أن أصبحت بحرا فإن بنانه ... بافاضة المعروف خمسة أبحر

وضع الإمام بها أساس بنائه ... والموج بين مجمجم ومزمجر

قصراً ومدرسة لمن طلب الغنى ... أو رام شأو العالم المتجر

هي جنة الفردوس يجري تحتها ... من ماء دجلة ماء نهر الكوثر

حصباؤها در النظام وتربها ... مسك الجندب؟ وطينها كالعنبر

أضحى سليمان الزمان وأهله ... مستخدما فيها بجنة عبقر

لبس الغبي بها شهامة ماهر ... وغدا المقل مزاحما للمكثر

لم تخل من حبر وشيخ فاضل ... يروي الحديث وساجد ومعفر

قد كانت الفقهاء قبل بنائها ... في كل قطر واحد لم يذكر

فرقى يشق على المريد طلابها ... في الشرع والمطلوب كالمعتذر

فاليوم قد جمعت أمور الدين في ... أرجائها وأزيل عذر المقصر

وأورد بعده جماعة كثيرة، ثم ذكر المدرسان المقدم ذكرهما الدروس كل واحد منهما على حدته، والنائبان كل واحد منهما تحت السدة ثم قسمت الأرباع فسلم ربع القبلة الأيمن إلى الشافعية، والربع الثاني يسرة القبلة للحنفية، والربع الثالث يمنة الداخل للحنابلة، والربع الرابع يسرة الداخل للمالكية، وأسكنت بيوتها وغرفها وأجري لهم الجراية الوافرة. عملاً بشرط الواقف، ثم نهض نصير الدين وأرباب الدولة والحاضرون وكان يومئذ الخليفة جالساً في الشباك الذي في صدر الإيوان، ينظر جميع ماجرت الحال عليه.

تلخيص شروط هذه المدرسة

شرط أن يكون عدة الفقاء مائتين وثمانية وأربعين متفقها من كل طائفة أثنان وستون بالمشاهرة الوافرة والجراية الدارة واللحم الراتب والمطبخ الدائر إلى غير ذلك من الحلواء، والفواكه، والصابون والبزر، والفرش، والتعهد، وشرط أن يكون في دار الحديث التي بها شيخ عالي الأسناد وقارئان وعشرة أنفس يشتغلون بعلم الحديث النبوي، وأن يقرأ الحديث في كل يوم سبت واثنين وخميس من كل أسبوع، وشرط لهم الجراية، والمشاهرة، والتعهد أسوة بالفقهاء وشرط، أن يكون في الدار المتصلة بالمدرسة، ثلاثون صبياً أيتاماً يتلقنون القرآن المجيد من مقرىء متقن صالح، ويحفظهم معيد معه ولهم من الجراية، والمشاهرة، والتعهد، ما للمشتغلين بعلم الحديث، وشرط، أن يرتب بها طبيب حاذق مسلم، وعشرة أنفس من المسلمون يشتغلون بعلم الطب، ويوصل إليهم مثل ما للمقدم ذكرهم، وأن يكون الطبيب يطب من يعرض له مرض من أرباب هذا الوقف، ويعطي المريض ما يوصف له من أدوية وأشربة وغير ذلك، وشرط أن يكون بها من يشتغل بعلم الفرائض والحساب إلى غير ذلك، مما إذا أستقصي ذكره، طال تعداده.

ذكر عدة حوادث

في تاسع رجب، رتب القاضي أبو النجيب عبد الرحمن بن القاضي يحيى بن القاسم التكريتي ناظراً في مصالح المدرسة المستنصرية، ورتب العدل عبد الله بن ثامر مشرفاً عليه، ورتب معهما العدل أبو منصور الفاضل بن محمد كاتباً، ورتب العدل بن أبي البدر خازناً، وخلع على جميع.

وفي شهر رمضان، وصل محيي الدين يوسف بن الجوزي من مصر وخلع عليه بذار الوزارة، خلعة التدريس على الحنابلة، بالمدرسة المستنصرية، وحضرالمدرسة بالخلعة ومعه جميع الولاة والحجاب فجلس على السدة وخطب وذكر دروساً.

وفي ذي القعدة، توفي محيي الدين أبو المظفر بن البوقي، أصله من واسط من أولاد الفقهاء، أحب التصرف ودخل فيه فخدم عدة خدمات آخرها صدرية بلاد خوزستان، بقي على ذلك مدة ثم عزل.

 

وفيها، وصل الأمير مظفر الدين بهنام الرومي الناصري زعيم تستر معزولاً، وولي عوضه الأمير علاء الدين الدكز الناصري شحنة بغداد، وولي ظهير الدين الحسن بن عبد الله، ناظراً في أعمال خوزستان ومتوالياً لديوانها.

وفيها، خلع أمير الحاج شمس الدين قركان وتوجه بالحاج، فلما وصلو بعض المنازل بلغهم أن العرب الاجاودة طموا الآبار في منزل سلمان، وعزموا على أخذهم، فأشاروا على أمير الحاج بالعود إلى بغداد، فاستفتى من كان في الحاج من الفقهاء في ذلك، فأفتوا بجواز الرجوع، فرجع بالناس فلما وصلوا ذكروا أنهم طلبوا منهم المصالحة على مال، وتجاوزوا حد الكثرة فيه، وطلبوا اطلاق محبوسين لهم ببغداد، وأخذ وجوه الحاج رهائن على اطلاقهم وترددت الرسل بينهم في ذلك، هذا كله: والحاج نازلون على ماء قليل يصل إلى بعضهن بالقوة الجاه، وتمادت الأيام وتحقق فوات الحج، فعدلوا عن مصالحتهم، وتوجهوا عائدين، فمات منهم خلق كثير، ومعظم الجمال، وأحرقوا من أزوادهم وأمتعتهم قبل رحيلهم شيئاً كثيراً لئلا تأخذه العرب، فقال الفقيه أبو الحسن علي بن البطريق قصيدة: كتبها إلى الخليفة يحرضه على قتال العرب، هذه الأبيات منها:

الكفر في الترك دون الكفر في العرب ... أليس منهم إذا عدوا أبو لهب

أليس منهم أبو جهل وبنتهم ... عدوة المصطفى حمالة الحطب

فيا إمام الهدى يا خير من نظمت ... له المدائح، يابن السادة النجب

يا أيها القائم المنضور أنت إذا ... حضرت وجه رسول الله لم تعب

فاغز الأعاريب بالأتراك منتقما ... منهم ولا تر فيهم حرمة النسب

فقد غزاهم رسول الله في حرم ... الله المنيع بإذن الله وهو نبي

وما رعى فيهم آلا ولا نسبا ... ولم يقل أن أمي منهم وأبي

أن أدعوا أنهم قد أسلموا فقدار ... تدوا بمنعهم للحج عن كثب

وكان قد وصل تابوت مظفر الدين كوكبري صاحب أربل ونفذ صحبة الحاج ليدفن في مكة فلما رجع الحاج، دفن في مشهد علي عليه السلام.

وفيها، نقل تاج الدين معلى من صدرية المخزن، إلى صدرية ديوان الزمام، ونقل عميد الدين بن عباس من الأشراف عليه هناك، وجعل مشرفاً عليه في الديوان.

وولي جمال الدين عبد الله بن الناقد صدرا بالمخزن نقلاً من الحجبة به، وخلع عليه في دار أخيه نصير الدين، ورتب فخر الدين أحمد بن الدامغاني مشرفاً عليه نقلاً من أشراف ديوان الزمام، وخلع عليه.

وفيها، توفى أبو عبد الله العباس بن الخليفة الظاهر، وتوفي أيضاَ الشيخ أبو العباس أحمد بن ثبات الهمامي الواسطي، كان أحد عدول واسط، وتولى قضاء الهمامية مدة ثم ترك ذلك، وقدم بغداد، وأقام بالمدرسة النظامية نحواً من أربعين سنة، يقرىء الناس علم الحساب والفرائض، وصنف في ذلك كتباً، وكان لا يخرج من المدرسة إلا لصلاة الجمعة، مضى على ذلك عمره إلى أن توفي، وكان شيخاً بارد الكلام جداً، من يسمع كلامه يخاله أبله، فإذا أملي مسائل الحساب أتى بكل حسن.

وتوفي مجد الدين مخمد بن زعرور، كان أولاَ يتصرف في أعمال السواد، ثم رتب نائباً بالجانب الغربي مدة، ثم ولي نظارة واسط وأقام بها سنين، ثم فصل عنها فأقام ببغداد مدة، ثم عين عليه صدراً بنهر عيسى. ونهر الملك. وهبت والأنبار، وجعل له ديوان مفرد، فكان على ذلك إلى أن توفي.

وتوفي، تاج الدين أبو الحسن علي بن الأنباري الواسطي، ولد بواسط وخدم في أعمالها، ثم قدم بغداد وخدم ناظراً في ديوان العقار، ثم رتب ناظراً بديوان واسط، ثم عزل ورتب مشرفاً في البلاد الحلية مدة، ثم ناب في أعمال المخزن، ثم ولي أشراف الديوان ثم نقل إلى صدرية ديوان الزمام، فلم يزل على ذلك إلى أن مات، وكان ظالماً متحيفاً.

 

وفيها، توفي أبو عبد الله محمد بن يحيى بن فضلان، كان فقيهاً عالماً، درس بعد أبيه بمدرسة فخر الدولة بن المطلب، ورتب كاتبا بدار التشريفات، ثم تولى تدريس المدرسة النظامية والنظر في أوقافها إضافة في دار التشريفات، ثم عزل عن النظامية خاصة وتوفر على خدمته بدار التشريفات وتدريس - دار الذهب - ورفع الطرحة، ثم قلد قضاء القضاة، ورد إليه النظر في ديوان الحسبة والنظر في أوقاف المدارس والأربطة، فلم يزل على ذلك إلى أن توفي الخليفة الناصر لدين الله، فلما بويع الظاهر بأمر الله، عزله فلزم منزله لا يخرج منه إلا لصلاة الجمعة، ثم استدعي وولي نظارة المارستان العضدي، فكان على ذلك شهوراً، ثم عزل نفسه ولزم بيته إلى أن استدعي وولي النظر بديوان الجوالي واستيفاء ثروات أهل الذمة، ثم ولي تدريس - مدرسة الأصحاب - فتردد إليها مدة ثم تركها، وتوفر على ديوان الجوالي ثم نفذ في رسالة إلى ملك الروم، فلما عاد رتب مدرس الطائفة الشافعية: بالمدرسة المستنصرية فكان على ذلك إلى أن توفي.

 

حكي عنه: أنه كتب للخليفة الناصر لدين الله لما كان يتولى ديوان الجوالي رقعة طويلة يقول فيها: مذهب الشافعي رضي الله يقضي أن المأخوذ من أهل الذمة، أعني اليهود والنصارى وكل سنة أجرة عن سكناهم في دار السلام، والارتفاق بمرافقها لا يتقدر في الشرع بمقدار معين في طرف الزيادة ويتقدر في طرف النقصان بدينار، فلا يؤخذ من أحد منهما على الاطلاق أقل من دينار ويجوز أن يؤخذ مايزيد علي الدينار إلى المائة، حسب امتداد اليد عليهم مهما أمكن، فإن رأى أن يتضاعف على كل شخص منهم ما يؤخذ منه، فللاراء الشريفة علوها في ذلك، وهذا لا يبين عليهم لا في أحوالهم ولا في ذات أيديهم لأن الغالب على الجميع التخفيف في القدر المأخوذ منهم، وهم ضروب وأقسام، منهم من هو في خدمات الديوان وله المعيشة السنية غير بركة يده الممتدة إلى أموال السلطان والرعية من الرشا والبراطيل، ولعل الواحد منهم ينفق في يومه القدر المأخوذ منه في السنة، هذا مع مالهم من الحرية الزائدة والجاه القاطع والترقي على رقاب خواص المسلمين، وقد شاهد العبد وغيره من الفقهاء الحاضرين في المخزن لتناول البر المتقبل: أن أبن الحاجب قيصر، أقام ابن محرز الفقيه من طرف موضع كان به، وأقعد مكانه ابن زطينا كاتب المخزن لمكان خدمته وقد روي عن علي عليه السلام أنه قال: أمرنا أن لا نساويهم في المجلس ولا نشيع جنائزهم ولا نعود مرضاهم ولا نبدأهم بسلام وقد كان أبن مهدي استفتى العبد وغيره، في تولية ابن ساوا النظر بواسط، فقال له العبد: لا يجوز ذلك، وذكر له قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أبي موسى الأشعري وذلك أنه عرض عليه حسبة عمل من الأعمال فأعجبته، فقال من كاتب هذه؟ وكان عمر جالساً في المسجد، فقال له أبو موسى: رجل بباب المسجد، فقال عمر: ما باله لا يدخل المسجد أجنب هو؟ قال: لا إنما هو نصراني، فغضب عمر وقال: أتقربونهم وقد أبعدهم الله وتأتمنونهم وقد وخونهم الله وترفعونهم وقد وضعهم الله لا يعمل لي هذا عملاً في بلد من بلاد الإسلام، ثم ليس لهم في بلد من الحرمة والجاه والمكانة ما لهم في مدينة السلام، فلو تضاعف المأخوذ منهم مهما تضاعف، كان لهم الربح الكثير. ومنهم الاطباء أصحاب المكاسب الجزيلة، بترددهم إلى منازل الأعيان، وأرباب الأحوال ودخولهم على المتوجهين في الدولة، والناس يتحملون فيما يعطون الطبيب زائداً على القدر المستحق، وهو أمر من قبل المروآت فلا ينفكون عن الخلع السنية والدنانير الكثيرة والطرف في ا لمواسم والفصول مع ما يحطون في المعالجات ويفسدون الأمزجة والأبدان، ويخرج الصبي منهم ولم يقرأ غير عشر مسائل حنين، وخمس قوائم من تذكرة الكحالين وقد تقمص ولبس العمامة الكبيرة وجلس في مقاعد الأسواق والشوارع على دكة حتى يعرف، وبين يديه المكحلة والملحدان يؤذي هذا في بدنه وبجرب على ذا في عينه، فيفتك من أول النهار إلى آخره ويمضي آخر النهار إلى منزله ومكحلته مملوءة قراضة فإذا عرف بقعوده على الدكة وصار له الزبون، قام يدور ويدخل الدور، ومنهم أرباب المعايش من العطارين والمخلطين والكسارين أصحاب المكاسب ا لظاهرة والارتفاقات الكثيرة بأموال التجار المسلمين وأخذهم من الحجر بالمدة وما يعفوا في ميزان الذهب، وميزان الارطال وما يغشون في الحوائج ويدغلون، ومنهم أصحاب الحرف والصناعات من الصاغة وغيرهم وما يتقلبون فيه من الذهب والفضة ويسرقون الذهب ويجعلون عوضه المس ويعدلونه ويسرقون الفضة ويجعلون عوض ذلك في المواضع المستورة بحسب احتمالها، تارة قارا وغير ذك ومنهم الجهابذة وما يسرقون في القبض والتقبيض، ومنهم الصيارف واحتجاجهم ببضاعة دار الضرب مع مالهم من التبسط في المسلمات والمسلمين وبذل جزيل المال في تحصيل أغراضهم في الفساد ورفاهية العيش والتلذذ في المآكل والمشارب، ثم ما زالوا على اختلاف الزمان يؤخذون بالصغار ولبس الغيار الذي أوجبه الشرع عليهم، وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أمراء الأمصار، أن احملوا أهل الذمة على جز نواصيهم وأن يختموا أعناقهم بخواتم من رصاص أو حديد، وأن يركبوا على الأكف عرضاً، وأن يشدوا الزنانير علي أوساطهم ليتميزوا بذلك عن المسلمين، وعلى ذلك جرى الأمر في زمن الخلفاء الراشدين وآخر من شدد عليهم المقتدي بأمر الله واجراهم على العادة التي كانت في زمن

 

المتوكل، فعلق في أعناقهم الجلاجل ونصب الصور والخشب على أبوابهم لتتميز بيوتهم عن بيوت المسلمين، وأن لا يساوي بنيانهم بنيان المسلمين وألزم اليهود لبس الغيار والعمائم الصفر، وأما النساء فلازر العسلية، وأن تخالف المرأة منهم بين لوني خفيها، واحد أسود، والآخر أبيض، وأن يجعلوا في أعناقهن أطواقاً من حديد إذا دخلن الحمامات، وأما النصارى فلبس الثياب الدكن والفاختية وشد الزنانير على أوساطهم وتعليق الصلبان على صدورهم، وإذا أرادوا الركوب لا يمكنون من الخيل، بل البغال والحمير بالبراذع دون السروج عرضاً من جانب واحد، فهؤلا قد حط عنهم هذا كله فلا يقابل ذلك بتضعيف ما يؤخذ منهم، وهؤلاء في أكثر البلاد يلزمون الغيار ولايتمكنون من الدخول إلا في أرذل الصنائع وأرذل الحرف، أما في بخار سمرقند فمنقوا الكنف المجاري ورفع المزابل ومساقط الفضلات هم أهل الذمة، وأقرب البلاد إلينا حلب، وهم بها عليهم الغيار، ومن حكم الشرع أنه إذا أخذت الجزية منهم يدفعها المعطي منهم وهو قائم والآخذ قاعد يضعها في كفه ليتناولها المسلم من وسط كفه: تكون يد المسلم العليا ويد الذمي هي السفلى، ثن يمد بلحيته ويضرب في لهازمه ويقول له: أد حق الله ياعدو الله ياكافر، واليوم منهم من لا يحضر عند العامل بل ينفذها على يد صاحبه، الصابئة قوم من عبدة الكواكب يسكنون في البلاد الواسطية لا ذمة لهم، وكان في قديم الزمان لهم ذمة، فاستفتى القاهر بالله أبا سعيد الاصطخري، من أصحاب الشافعي في حقهم، فأفتاه بأراقة دمائهم وأن لا تقبل منهم الجزية، فلما سمعوا بذلوا له خمسين ألف دينار فأمسك عنهم، وهم اليوم لا جزية عليهم ولا يؤخذ منهم شيء، وهم في حكم المسلمين والأمر أعلى: فيما وقف الخليفة على رقعته لم يعد عنها جواباً، ولما توفي ابن فضلان رتب عوضه في تدريس المدرسة المستنصرية قاضي القضاة أبو المعالي عبد الرحمن بن مقبل الواسطي مضافاً إلى القضاء.، فعلق في أعناقهم الجلاجل ونصب الصور والخشب على أبوابهم لتتميز بيوتهم عن بيوت المسلمين، وأن لا يساوي بنيانهم بنيان المسلمين وألزم اليهود لبس الغيار والعمائم الصفر، وأما النساء فلازر العسلية، وأن تخالف المرأة منهم بين لوني خفيها، واحد أسود، والآخر أبيض، وأن يجعلوا في أعناقهن أطواقاً من حديد إذا دخلن الحمامات، وأما النصارى فلبس الثياب الدكن والفاختية وشد الزنانير على أوساطهم وتعليق الصلبان على صدورهم، وإذا أرادوا الركوب لا يمكنون من الخيل، بل البغال والحمير بالبراذع دون السروج عرضاً من جانب واحد، فهؤلا قد حط عنهم هذا كله فلا يقابل ذلك بتضعيف ما يؤخذ منهم، وهؤلاء في أكثر البلاد يلزمون الغيار ولايتمكنون من الدخول إلا في أرذل الصنائع وأرذل الحرف، أما في بخار سمرقند فمنقوا الكنف المجاري ورفع المزابل ومساقط الفضلات هم أهل الذمة، وأقرب البلاد إلينا حلب، وهم بها عليهم الغيار، ومن حكم الشرع أنه إذا أخذت الجزية منهم يدفعها المعطي منهم وهو قائم والآخذ قاعد يضعها في كفه ليتناولها المسلم من وسط كفه: تكون يد المسلم العليا ويد الذمي هي السفلى، ثن يمد بلحيته ويضرب في لهازمه ويقول له: أد حق الله ياعدو الله ياكافر، واليوم منهم من لا يحضر عند العامل بل ينفذها على يد صاحبه، الصابئة قوم من عبدة الكواكب يسكنون في البلاد الواسطية لا ذمة لهم، وكان في قديم الزمان لهم ذمة، فاستفتى القاهر بالله أبا سعيد الاصطخري، من أصحاب الشافعي في حقهم، فأفتاه بأراقة دمائهم وأن لا تقبل منهم الجزية، فلما سمعوا بذلوا له خمسين ألف دينار فأمسك عنهم، وهم اليوم لا جزية عليهم ولا يؤخذ منهم شيء، وهم في حكم المسلمين والأمر أعلى: فيما وقف الخليفة على رقعته لم يعد عنها جواباً، ولما توفي ابن فضلان رتب عوضه في تدريس المدرسة المستنصرية قاضي القضاة أبو المعالي عبد الرحمن بن مقبل الواسطي مضافاً إلى القضاء.

وتوفي على بن ابراهيم بن الانباري الذي كان صاحب الديوان.

سنة اثنتين وثلاثين وستمائة

فيها، رتب فخر الدين أبو سعيد المبارك بن المخرمي وكيل باب طراد والنظر بدار الشريفات عوض علي بن العنبري نقلا من نيابة ديوان الزمام.

وفيها، عزل شمس الدين علي بن سيقر الطويل عن الإمارة ولزم بيته وقصر نفسه فيه.

 

وفيها، تقدم بأحضار جماعة من الولاة وأرباب الدولة إلى دار الوزارة ثم جماعة من التجار والصيارف وأحضرت دراهم فضة وألقيت على نطع بين يدي نصير الدين ثم نهض قائماً والجماعة، وعرفهم أن الخليفة أنعم في حق رعيته وأنقذهم من التعامل بالحرام وتجنب الآثام وأغناهم عن الصرف المشتمل على الربا بالمعاملة بهذه الدراهم عوضاً عن القراصنة، وقرر سعرها كل عشرة دراهم بدينار، واعطى الصيارف منها ما يعاملون الناس به.

وفيهم، ختم الأمير أبو أحمد عبد الله ولد الخليفة المستنصر بالله القرآن المجيد على مؤدبه العدل أبي المظفر علي بن النيار واحضر له خلعة: قميص اطلس وبقيار قصب بمغربي، فأمتنع من لبسه تورعاً لما ورد في ذلك من النص الدال على التحريم، وأحضر له قميص مصمت غزلي وبقيار قصب بحرير وأنعم عليه بألفي دينار، وفرس عربي وخلع على ولد له صغير مائتي دينار وأنفذ إلى داره ما حمله اثنان وأربعون حمالاً، ثم عملت دعوة عظيمة بلغت الغرامة عليها عشرة آلاف دينار، ثم خلع على وكيله العدل عبد الوهاب بن المطهر وعلى ولده وعلى جميع الخدم والحاشية.

وفيها، نقل تاج الدين علي بن الدوامي من ديوان عرض الجيش إلى صدرية ديوان أربل وخلع عليه وتوجه إليها.

وفيها، ولي قطب الدين سنجر الناصري شحنكية بغداد.

ووصل رسول من بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، ومعه تحف والطاف وكراع كثير، وسأل تزويج ابنته بمجاهد الدين أيبك الخاص المستنصري المعروف بالدويدار الصغير، فأحضر قاضي القضاة أبو المعالي عبد الرحمن بن مقبل ونائباه عبد الرحمن بن عبد السلام بن اللمغاني وعبد الرحمن بن يحيى التكريتي، وحضر مجاهد الدين الديويدار ومعه جماعة كبيرة من خدم الخليفة وأصحاب الشرابي وحاشية البدرية وجلس على يمين نصير الدين نائب الوزارة وخطب الخطيب أبو طالب الحسين بن المهتدي بالله خطبة النكاح وتولى العقد القاضي أبن اللمغاني وكان وكيل بدر الدين لؤلؤ رسوله أمين الدين لؤلؤ، والصداق مبلغه عشرون ألف دينار، وكتب كتاب الصداق في ثوب اطلس أبيض، وعملت دعوة عظيمة، ثم نهض مجاهد الدين، وخلع نصير الدين على من باشر العقد من القضاة والشهود والخطيب والوكلاء، وفي هذا الأملاك أنشد جماعة من الشعراء: منهم عبد الحميد بن أبي الحديد أنشد أبياتاً يقول فيها:

أهلاً بيوم حسن المنظر ... قد قرن الزهرة بالمشتري

لاسلباً ظل أمام الهدى ... شمس الوجود النير الأكبر

وفيها، عزل فخر الدين أبو طالب أحمد بن الدامغاني عن أشراف الديوان فلزم منزله.

وفيها، قتل رجل نصراني كان يسكن في درب الشاكريه، قتله غلام له وأظهر أنه قد سافر، فطال العهد بذلك، والغلام في داره يتصرف فيها على حسب ايثاره، فارتيب به فأخذ وقرر بالضرب فاعترف بأنه قتله والقاه في بئر داره، فوقع الاقتصار على تخليده السجن، لآن الغلام كان مسلما عملا بمذهب - الشافعي وأحمد - في ذلك.

وفيها، رتب الاوحد الكرماني الصوفي شيخاً للصوفية برباط المرزبانية وخلع عليه واعطي بغلة ونفذ معه حاجب إلى هناك وهو شيخ حسن السمت، متكلم بلسان أهل الحقيقة وأرباب الطريقة قدم بغداد ونزل بجامع ابن المطلوب وكان الناس يقصدونه ويحضرون عنده من الفقراء والصوفية فأشتهر ذكره.

وفيها، عزل أمير الحاج قيران الظاهري عن أمارة الحاج خاصة، وولي عوضه الأمير حسام الدين أبو فراس بن جعفر بن أبي فراس وحج بالناس في هذه السنة.

 

وفيها، توفي الشيخ شهاب الدين أبو حفص عمر بن محمد بن عبد الله السهروردي الصوفي الواعظ ولد بسهرورد ونشأ بها وقدم بغداد واستوطنها وهو أبن أخي الشيخ أبي النجيب السهروردي، صحبة كثيراً وعنه أخذ علم الصوفية والوعظ ومعرفة الحقيقة والطريقة وصنف في شرح أحوال الصوفية كتاباً حسناً وتكلم في الوعظ بباب بدر ومدرسة عمه أبي النجيب وتولى عدة ربط للصوفية، منها رباط الزوزني ورباط المأمونية وبنى له الخليفة الناصر لدين الله رباطاً بالمرزبانية على نهر عيسى وبنى إلى جنبه دارا واسعة وحماماً وبستاناً يسكنها بأهله ونفذه الخليفة رسولاً إلي عدة جهات وكان الملوك الذين يرد عليهم يبالغون في اكرامه وتعظيمه واحترامه اعتقاداً فيه وتبركاً، ودفن في الوردية في تربة عملت له هناك على جادة سور الظفرية، ومات عن اثنتين وتسعين سنة لم يخلف شيئاً من عروض الدينا بعد أن حصل له منها الشيء الكثير فأخرجه جميعه لأنه كان كريم النفس وكان مهيب الشكل طيب الأخلاق كثير العبادة.

وتوفي، عبد السلام بن أبي عصرون التميمي الحلبي الفقيه الشافعي المفتي المدرس، من بيت مشهور بالعلم والقضاء والرئاسة والقدم عند الملوك بحلب، كان فاضلاً ذا أموال فائضة وعنده سعة نفس وكان يقول الشعر.

وتوفي، أبو سليمان داود بن يوسف بن أيوب بن شادي المعروف بالملك الزاهر صاحب البيرة.

وتوفي، أبو حفص عمر بن محمد بن أبي نصر الفرغاني الفقيه الحنفي شيخ صالح قدم بغداد وأقام بها مدة برباط الزوزني المجاور لجامع المنصور، ثم انحدر إلى واسط وأقام عند بني الرفاعي، سائحاً متعبداً وانتفع به بنو الرفاعي واشتغلوا عليه ثم عاد إلى بغداد بعد سنين وأصعد إلى سنجار فأقام بها مدة يقرأ عليه في جامعها الفقه والأدب ثم عاد إلى بغداد وأقام برباط العميد مدة ثم ندب إلى تدريس الطائفة الحنفية لما فتحت المدرسة المستنصرية، فلم يزل بها إلى أن مات قبل أن دخل إليه الشيخ محمد بن الرفاعي فصبحه غلطاً وكان مساء فقال ارتجالاً:

أتاني مساء نور عيني ونزهتي ... فخرج عني كربتي وأزاحا

فصبحته عند المساء لأنه ... بطلعته رد المساء صباحاً

ذكر فتح المدرسة الشرقية الشرابية بواسط

وفي هذه السنة في سابع عشر شعبان، فتحت المدرسة التي أمر بأنشائها شرف الدين أبو الفضائل الشراب للشافعية بالجانب الشرقي من واسط على دجلة مجاورة لجامع كان دائراً، فأمر بتجديد عمارته ورتب به مدرسا العدل أحمد بن نجا الواسطي ورتب بها معيدان واثنان وعشرون فقيهاً وخلع على الجميع وعلى من تولى عمارتها من النواب والصناع والحاشية الذين رتبوا لخدمتها وعمل فيها دعوة حسنة حضرها صاحب الديوان ابن الدباهي والناظر بواسط والقاضي والنقيبان والقراء والشعراء، وكان المتولي لعمارتها والذي جعل النظر إليه وإلى عقبه في وقفها أبو حفص عمر بن أبي بكر بن أسحق الدروقي.

سنة ثلاث وثلاثين وستمائة

 

في المحرم، وصل الملك الناصر ناصر الدين داود بن الملك المعظم عيسى بن الملك العادل أبي بكر محمد بن أيوب إلى بغداد واجتاز بالحلة السفيفة وبها الأمير شرف الدين علي بن جمال الدين قشتمر زعيم الحلة وفتلقاه بالاكرام والمد والإقامات وعمل له دعوة عظيمة بلغ الخرج عليها زيادة على اثني عشر ألف دينار، ثم توجه إلى بغداد فخرج إلى لقائه النقيب الطاهر قطب الدين أبو عبد الله الحسين بن الاقساسي وخادمان من خدم الخليفة وجميع الحجاب والدعاة فدخل وقبل عتبة باب النوبي ثم قصد دار الوزارة ولقي نصير الدين نائب الوزارة فاحترمه و بجله و خلع عليه خلعة احضرت من المخزن وهي قباء أطلس وسربوش وقدم له فرس عربي بمركب وذهباً وأسكن في دار بمحلة المقتدية تعرف بمعد الموسوي، وسبب قدومه إلى بغداد أنه كان قد ملك دمشق بعد وفاة أبيه الملك المعظم بعهد منه له، فقصده عماه الكامل أبو المعالي محمد صاحب مصر يومئذ والاشراف أبو الفتح موسى ابنا العادل أبي بكر، والاشرف حينئذ صاحب حران والرها وخلاط وغير ذلك، ونزلا بعساكرها ظاهر دمشق محاصرين لها واقاما على ذلك شهوراً وذلك في سنة ست وعشرين وستمائة فلما طال حصار البلد وضاق على أهله وكثر عبث العساكر وفسادهم وتخريبهم نرل ناصر الدين على حكمهما وفتح لهما البلد وخلاه فلما تمكنا من البلد سيراه إلى الكرك في جماعة من أصحابه فحضر لينهي حاله إلى الخليفة فوعده بأصلاح امره ثم أنفذ إليها في المعنى فأجابا إلى ذلك وسأل ناصر الدين في مدة اقامته ببغداد أن يحضر المدرسة المستنصرية فأمر الخليفة بعمل دعوة واحضار فقهاء المدارس، ثم حضر ناصر الدين فجلس على طرف ايوانها الشمالي ووقف مماليكه وأصحابه في ربعي المالكية والحنفية، ووقف عند كل طائفه حاجب وحضر قراء الديوان وقرئت الحتمات وأنشد جماعة من الفقهاء قصائد ثم قدم المشروب وبعده أنواع الأطعمة فتناول ناصر الدين من ذلك بعد أن قبل الأرض مرارا فلما فرغوا من ذلك انصرف إلى داره.

وفي ثامن عشر شعبان، تقدم إلى أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي بالجلوس في الرباط المجاور لمعروف الكرخي المقابل لتربة واقفته وحضر ناصر الدين، ولما انقضى المجلس مد سماط عظيم ثم خلع عليه في حادي عشرية في دار الوزارة وقدم له فرس عربي بمركب ذهباً ومشدة وأعطي علماً بمشاد وجفتايين، وخلع على حميع أصحابه وأتباعه ومماليكه وأعطي عدة ارؤس من الخيل وثياباً كثيرة وخمسة وعشرين ألف دينار وخمسين جملاً وكراعاً كثيراً وآلات ومفارش وغير ذلك وتوجه إلى مستقره وقد اصلحت الحال بينه وبين عميه الكامل والاشرف.

وفي سلخ ربيع الأول، وصل الأمير ركن الدين اسماعيل بن بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل إلى بغداد وخرج إلى لقائه النقيب الطاهر الحسين بن الاقساسي وخادمان من خدم الخليفة وموكب الديوان فلقيه بظاهر البلد ودخل معه إلى باب النوبي فقبل العتلة ودخل إلى نصير الدين نائب الوزارة فأكرمه وخلع عليه قباءا أطلس وسربوش شاهي وقدم له فرساً بعدة كاملة وأسكن دار الأمير علي بن سنقر الطويل بدرب فراشا وأسكن الأمراء الذين كانوا صحبته في دور، وبعد أيام قصد زيارة أخته زوجة الأمير علاء الدين أبي شجاع الطبرسي الدويدار فعمل له دعوة جميلة عمت جميع أصحابه وخلع عليه وأعطاه أحد عشر رأساً من الخيل العربيات وعشر جون فيها من أنواع الثياب وخمسة آلاف دينار وخلع على جميع أصحابه واتباعه ومماليكه.

وفي سابع عشر ربيع الآخر، حضر بالبدرية عند شرف الدين أقبال الشرابي فخلع عليه وعلى جميع أصحابه ووصله بذهب كثير وخيل وتحف واهدايا.

وفي العشرين من الشهر، حضر في دار نصر الدين نائب الوزارة فخلع عليه وقلد سيفاً وأمطي فرساً بعدة كاملة وخلع على جميع أصحابه وأنعم عليه بقدر صالح من العين برسم نفقة الطريق ثم توجه مصعداً في ثامن عشر الشهر، وفي مدة مقامه ببغداد عملت له دعوة في رباط الخلاطية فحضر هناك وتفرج في الرباط، ثم عملت له دعوة أخرى في رباط والده الخليفة الناصر لدين الله، ثم عملت له دعوة أخرى في المدرسة المستنصرية فحضر وجلس على أيوانها وقرأ وذكر المدرسون الدروس ثم طيف به في رواقها.

وفيها، عزل علي بن غزالة المدائني عن النظر بواسط وولي عوضه على بن الشاطر الانباري وولي الأمير بكتين الناصري شحنكيتها.

 

وفيها، وصل الفقيه عبد الله بن عبد الرحمن بن عمر المغربي الأصل الشرمساحي المولد الاسكندراني المنشأ والدار، إلى بغداد ومعه أهله وولده وجماعة من الفقهاء فلقي بالقبول من الديوان ثم أحضر دار الوزارة واحضر جميع المدرسين فذكر مسألة تفرع منها عدة مسائل على مذهب الإمام مالك بن أنس وبحثت الجماعة معه واستجادوا كلامه فخلع عليه وأمطي بغلة بعدة كاملة أسوة بالمدرسين بالمدرسة المستنصرية وتقدم بحضور أرباب الدولة والمدرسين بسائر المدارس والفقهاء فحضروا، فخطب خطبة بليغة وذكر اثني عشر درساً وختمها بدرس من الوعظ وأعربت دروسه عن فضل ظاهر وجعل له في كل رجب مائة دينار وخلع على أخيه وجعل معيداً لدرسه ثم خلع على الفقها الذين وصلوا صحبته وأثبتوا، وفي ربيع الآخر نقل القاضي فخر الدين أبو سعيد المبارك بن المخرمي من وكالة باب طراد، ونظره بدار التشريفات إلى صدرية المخزن، وخلع عليه وأعطي مركوباً بعدة كاملة وأنعم عليه بألف دينار وأسكن في الدار المنسوبة إلى الوزير عبيد الله بن يونس المجاورة للديوان ورتب علي بن غزالة المدائني مشرفاً عليه ورتب هبة الله بن خليد كاتباً معه، وخلع عليهما، ثم نقل فخر الدين بن المخرمي إلى صدرية ديوان الزمام، ونقل ابن غزالة إلى الأشراف عليه، وخلع عليهما وانحدراً إلى واسط.

واستناب نصير الدين بن الناقد نائب الوزارة اخاه أبا الفضل في الدكالة.

وفيها، ولي الأمير سراج الدين سرابه الناصري شحنكية البصرة.

وفيها تكامل بناء الايوان الذي انشىء مقابل المدرسة المستنصرية وعمل تحته صفة يجلس فيها الطبيب وعنده جماعته الذين يشتغلون عليه بعلم الطب ويقصده المرضى فيداويهم وبني في حائط هذه الصفة دائرة وصور فيها صورة الفلك وجعل فيها طاقات لطاف لها أبواب لطيفة، وفي الدائرة بأزان من ذهب في طاستين من ذهب ووراءهما بندقتان من شبه لايدركهما الناظر فعند مضي كل ساعة ينفتح فما البازين ويقع منهما البندقتان وكلما سقطت بندقة انفتح باب من أبواب تلك الطاقات والباب من ذهب فيصير حينئذ مفضفضاً، وإذا وقعت البندقتان في الطاستين تذهبان إلى مواضعهما، ثم تطلع أقمار من ذهب في سماء لازوردية في ذلك الفلك مع طلوع الشمس الحقيقية وتدور مع دورانها وتغيب مع غيبوبتها فإذا جاء الليل فهناك أقمار طالعة من ضوء خلفها كلما تكاملت ساعة تكامل ذلك الضوء في دائرة القمر ثم يبتدىء في الدائرة الأخرى إلى انقضاء الليل وطلوع الشمس فيعلم بذلك أوقات الصلاة، ونظم الشعراء في ذلك اشعاراً: منها قول أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي. من أبيات مدح بها الخليفة.

يا أيها المنصور يا مالكا ... برأيه صعب الليالي يهون

شيدت لله ورضوانه ... أشرف بنيان يروق العيون

أيوان حسن وضعه مدهش ... يحار في منظره الناظرون

صور فيه فلك دائر والش ... مس تجري ما لها من سكون

دائرة من لازورد حكت ... نقطة تبر فيه سرمصون

فتلك في الشكل وهذي معا ... كمال هاء ركبت وسط نون

وفيها، حضر عند قاضي القضاة أبي المعالي عبد الرحمن بن مقبل الواسطي حاجب الديوان وشافهه بالعزل عن القضاء وتدريس المدرسة المستنصرية وأمره بالانتقال من الدار التي سكنها القضاة، وولي عوضه أبو الفضل عبد الرحمن بن عبد السلام بن اللمغاني أقضى القضاة.

وفيها عاد تاج الدين أبو الفتوح على بن الدوامي من أربل مفارقاً للخدمة بها، وقد تقدم ذكر أصعاده إليها متولياً لأعمالها وصدراً لديوانها، فلما نقل فخر الدين أبو سعيد المبارك بن المخرمي من صدرية المخزن إلى صدرية ديوان الزمام رتب تاج الدين في صدرية المخزن وخلع عليه وقلد سيفاً وأمطى فرساً.

 

وفيها، وصلت الأخبار من أربل أن عساكر المغول اجتازوا بها قاصدين الموصل فحاربهم عسكر أربل وقتل من الفريقين وجرح جماعة ثم انفصلوا قاصدين أعمال الموصل فعاثوا بها أشد العبث وقتلوا ونهبوا وأسروا، فأمر الخليفة بتجهيز العساكر والتوجه إلى تلك الجهة واستنفار الأعراب من البوادي والرجالة من جميع الأعمال فلما حضروا فرقت عليهم الأموال والسلاح وجعل مقدم العساكر الأمير جمال الدين قشتمر وتوجهوا، فلما وصلوا دربند، بلغهم أن المغول قد عادوا راجعين إلى بلادهم فرجع حينئذ قشتمر والعسكر إلى بغداد.

وفيها، صرف محمد بن الغنم من الوكالة ورتب عوضه ابن الطبال الدلال وظهرت منه نجابة ومعرفة وجلادة تامة.

وفيها، توفي أبو عبد الله بن حمد بن المرشد شيخ من أهل - المرية - قرية من أعمال البصرة، يعرف الفقه علي مذهب الشافعي تولى قضاء واسط سنين عدة في الأيام الناصرية وولي الاشراف بديوان واسط وعزل في الأيام المستنصرية وكان عنده دعابة ومزح وكيس وتواضع، قدم بغداد بعد عزله وهو شيخ طوال قليل البصر وقصد يوما كمال الدين عبد الرحيم ابن ياسين فطرق الباب فقال من بالباب فقال ثلاثة عميان فأذن له فلما دخل رآه وحده فاستفسره عما قال فقال أنا الثلاثة العميان، لأني غريب والغريب كما يقال أعمى، وطالب حاجة وطالب الحاجة أعمى لا يرى إلا قضاءها، والعمى الحقيقي فمشاهد، وكان أب ياسين ضعيف النظر جداً فقال له ياسيدي صرنا أربعة، كانت وفاته في المرية، وقد أضر وعمره ثمانون سنة.

وتوفي جمال الدين أبو الحسن عبد الله بن الناقد أخو نصير الدين نائب الوزارة، رتب أولاً حاجبا بالديوان ثم نقل إلى حجة المخزن ثم ولي صدرية المخزن وكان على ذلك إلى أن توفي، صعد ليلة إلى غرفة داره فعرض له فالج فلم يتمكن من النزول فبقي على تلك أياماً ومات في صفر.

وتوفي، بعد أخوه نور الدين أبو الفضل يحيى، كان أحد الحجاب بالديوان وناب عن أخيه نصير الدين نائب الوزارة في الوكالة في هذه السنة وتوفي في ذي الحجة.

وفيها، توفي أبو صالح نصر بن أبي بكر بن عبد الرزاق بن أبي محمد عبد القادر الجيلي الفقيه الحنبلي الواعظ، شيخ وقته ومقدم مذهبه من بيت العلم والصلاح، سمع الحديث ورواه وتفقه على أبيه وعلى الشيخ النوقاني الشافعي وتكلم في مسائل الخلاف ودرس في مدرسة جده بباب الازج والمدرسة الشاطئية بباب الشعير وتكلم في الوعظ وشهد عند قاضي القضاة ابن الدامغاني وقلد قضاء القضاة في خلافة الظاهر بأمر الله ولم يقلد قضاء القضاة حنبلي سواه فسار سيرة حسنة من فتح بابه ورفع حجابه والجلوس للناس عموماً والآذان على بابه والصلاة بالجماعة والخروج إلى صلاة الجمعة راجلاً ولبس القطن وتجنب لبس الابريسم، ثم عزل في سنة ثلاث وعشرين، فانتقل إلى مدرسته وجلس على عادته بذكر الدروس ويفتي الناس، ولما تكامل بناء الرباط المستجد بدير الروم، جعل شيخاً على من به من الصوفية فلم يزم على ذلك إلى أن توفي، ودفن في دكة الإمام أحمد رضي الله عنه فأنكر الخليفة ذلك وأمر بتحويله فحول ليلاً ودفن قريباً منه، خارجاً عن تربته ولما عزل عن القضاء قال أبياتاً أولها:

حمدت الله عز وجل لما ... قضالي بالخلاص من القضاء

وفيها، توفي أبو منصور معلى بن الدباهي الفخري من قرية تعرف - بالفخرية - من أعمال نهر عيسى من أهل بيت ذوي رئاسة وتناية، ومعلى هذا رتب ناظراً بدجيل، ثم بنهر عيسى، ثم نقل إلى صدرية المخزن، ثم نقل إلى صدرية ديوان الزمام، فكان على ذلك إلى أن أمر بملاحظة أربل وأعمالها، فتوجه إليها في هذه السنة فتوفي بأربل ودفن بها.

وحج بالناس في هذه السنة، الأمير أبو فراس بن جعفر بن أبي فراس.

وفيها، توفي عز الدين ابن الأثير الجزري صاحب الكامل في التاريخ بالموصل.

سنة أربع وثلاثين وستمائة

 

في خامس صفر، وصل إلى بغداد نور الدين أرسلان شاه بن عماد الدين زنكي صاحب شهر زور فخرج موكب الديوان إلى لقائه وفي صدره عارض الجيوش أبو الحسن علي بن المختار وخادمان من خدم الخليفة، فلقيه بظاهر السور ودخل معه وقصد باب النوبي وقبل العتبة ثم دخل إلى نصير الدين بن الناقد نائب الوزارة فرفع قدره وخلع عليه ثم خرج ومضى إلى دار عينت له بمحلة المقتدية منسوبة إلى النقيب الطاهر معد الموسوي وأسكن أصحابه في دور مجاور لها، وكان جميل الصورة ظريف الشكل لطيف القد، واستدعي في حادي عشر الشهر إلى البدرية فحضر عند شرف الدين أقبال الشرابي فشرفه بلباس الفتوة نيابة ووكالة عن الخليفة وخلع عليه، وفي رابع عشرية، عمل له دعوة بالمدرسة المستنصرية وحضر إليها وجلس على طرف أيوابها الصغير وفرقت الربعات وقرئت الختمات وذكر المدرسون بها الدروس ثم نهض فدخل دار كتبها فجلس بها ساعة، ثم خرج متوجهاً إلى داره، واستدعي في خامس عشري الشهر إلى دار الوزارة وخلع عليه وقلد سيفاً وحمل على فرس بمركب ذهباً وعدة كاملة وأعطي خمسة أحمال كوساة ونقارات وما يناسب ذلك من الآعلام وغيرها وأنعم عليه بخمسة آلاف دينار، وأذن له في العودة إلى بلده فتوجه في ذلك اليوم.

في ربيع الأول، ختم الأمير أبو القاسم عبد العزيز ولد الخليفة المستنصر بالله القرآن المجيد، على مؤدبه العدل أبي المظفر علي بن النيار وجرت الحال في الدعوة وخلع على ما تقدم شرحه في ختمة أخيه.

وفيه، عزل تاج الدين علي بن الدوامي عن صدرية المخزن مراسلة بحاجب وكان في عقابيل مرض ورتب عوضه أبو فضلة هاشم بن علي بن الأمير السيد العلوك ثم ولي تاج الدين في شهر رجب حجبة باب النوبي وأمر الشرطة.

وفيها، قصد جماعة عيادة مريض وهو على سطح دارة فقعدوا عنده ساعة فوقع السقف ووقعوا كلهم فماتوا جميعهم إلا المريض.

كم من مريض قد تحاماه الردى ... فنجا ومات طبيبه والعود

وفيها، وصل أمير الحاج أبو فراس أبن أبي فراس ومعه العرب الأجاودة الذين تعرضوا لأذية الحاج ومنعوهم الحج في سنة اثنتين وثلاثين وستمائة وكل منهم قد كشف رأسه وجعل على عنقه كفنه وبيده سيفه ومعهم نساؤهم وأولادهم فقصدوا باب النوبى وقبلوا الأرض ورمى النساء براقعهن وضججن بالبكاء والتضرع فعرفوا قبول توبتهم والعفو عنهم وأنعم عليهم باكسوات وغيرها وعادوا إلى أماكنهم.

وفيها، حضر عبد الله الشرمساحى مدرس المالكية بالمدرسة المستنصرية بالبدرية عند شرف الدين أقبال الشرابي وأنعم عليه بلباس الفتوة نيابة ووكالة عن الخليفة.

وفي هذه السنة، قصد ملك الروم مدينة آمد وحصرها وضيق على أهلها وجرى بين العسكرين قتال وقتل من الفريقين خلق كثير وقلت الأقوات وتعذرت على أهل البلد فأرسل صاحبها إلى الخليفة يعرفه ذلك ويسأله مراسلة ملك الروم في الكف عنه فأمر الخليفة بانقاذ أبي محمد بن الجوزي فتوجه نحوه، وقال: لما وصلت إليه وجدت عساكره قد أحاطت بمدينة آمد وأهل البلد في ضر عظيم فعرضت عليه مكتوب الديوان فذكر أن أولئك هم الذين ابتدأوا وقتلوا أصحابه، قال: فأخرجب خط الخليفة بقلمه وتلوت قوله تعالى (كتاب أنرلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب) وقبلته وسلمته إليه فقام ووضعه على عينه ورأسه وقرأه وأمر في الحال بالكف عن القتال والرحيل عن البلد.

وفيها، أمر الخليفة بعمل مزملة بالقرب من قبر أحمل بن حنبل رضي الله عنه لاجل الزوار الواردين فلما تكامل بناؤها فتحت وجعل فيها الحباب وملئت من الجلاب، ورتب فيها قيم يقوم بمصالحها ونظم الشعراء في ذلك قصائد منها: ما قاله جعفر بن مهدوية الكاتب من قصيدة يمدح بها الخليفة:

وقبر أحمد قد طرزت حليته ... بحلية زينت منه مبانيه

ثم أتخذت لنا فيه مزملة ... ندل أنك يوم الحوض ساقية

فاسلم فدتك الرعايا يا أمام هدى ... تهدي إلى الحق من قد ضل في البته

وفيها، قلد أقضى القضاة عبد الرحمن بن المغاني علي بن البصري قاضي دجيل قضاء واسط وأعمالها.

 

وفيها، وصل الأمير عز الدين قيصر الظاهري مخبراً بوصول ابنة بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، وكان قد نفذ لاحضارها لنزف على زوجها مجاهد الدين أبيك المستنصري المعروف بالدويدار الصغير فخرج إلى تلقيها بدر الظاهري المعروف بالشحنة أحد خدم الخليفة وفي صحبته ثلاثون خادماً والأمير بدر الدين سنقر جاه أمير آخور الخليفة وجماعة من المماليك والحاجب، أبو جعفر أخو استاذ الدار ومؤيد الدين محمد بن العلقمي فتلقاها بدر الشحنة في المزرفة وعادوا الجماعة معه وانحدرت هي في شبارة، حملت لها إلى هناك في جماعة من خدمها وجواريها وصعدت في باب البشرى ليلاً، وقد أعد لها بلغة فركبت واجتازت بدار الخلافة وخرجت من باب النوبي إلى دار زوجها مجاهد الدين - بدرب الدواب - وهي الدار المنسوبة إلى أحمد بن القمي فنثر عليها خادم لزوجها ألف دينار عند دخولها الدار.

وفي رابع جمادي الآخرة، خلع الخليفة علي مجاهد الدين بين يديه وقدم له مركوب بعدة كاملة فخرج وقبل حافرة وركب من باب الأتراك ورفع وراءه أربعة عشر سيفاً إلى غير ذلك من الحراب والنشاب وأشهرت السيوف من باب دار الضرب وخرج معه جماعة من خدم الخليفة والحاجب أبو جعفر بن العلقمي أخو استاذ الدار ومهتر الفراشين وحاجب ديوان الأبنية وغيرهم، وتوجه إلى داره فلما اجتاز بباب البدرية، نشر عليه خادم من خدم الشرابي أربعة آلاف دينار ولما اجتاز بدرب الدواب، نثر عليه في عدة مواضع من دار الأمير جمال الدين قشتمر ودار ابنته زوجة الأمير نصرة الدين كنج أرسلان، وكان ورائه الاعلام والطبول والكوسات.

في عشية هذا اليوم، نفذ له أحد عشر طبلاً، للخلق وأحد عشر قصعه وزوج صنج برسم طبل النوبة في الصلوات الثلاث، وزفت عليه زوجته فاجتمع له فرحتان فرح الإمارة وفرح العرس ولم يبلغ أحد من أبناء جنسه مع حداثة سنة ما بلغ ومن الغد عرضت عليه الهدايا من رقيق الترك والخدم والحبوش وأنواع الثياب والطيب والخيل وآلة الحرب وغير ذلك، من جميع الزعماء وأرباب الدولة وخدم الخليفة وسائر المماليك، ثم الوزير والشرابي واستاذ الدار والديودار الكبير، ولم ينفذ له أحد شيئاً إلا وخلع على المنفذ على يده، ثم ركب وبين يديه الأمراء والمماليك ورفع وراءه السلاح وقيدت بين يديه الخيل المجنونة وشهرت حوله السيوف وسعى السكيانية وبأيديهم الحرب والاطبار، والجاووشية بأيديهم الجوالكين الذهب والفضة وقصد دار الخلافة فخدم وعاد، ثم ركب عشية هذا اليوم وقصد دار الخليلة فخدم، وخرج وقت عشاء الآخرة في الأضواء والشموع واستمر دخوله إلى دار الخليفة في كل يوم بكرة وعشية على هذا الوضع.

وفي عاشر الشهر، خلع على أخواجته أبي الحسن علي بن المختار العلوي وعلى وكيله ماري بن صاعد بن توما النصراني وعلى نواب ديوانه وجميع الأمراء الذين أضيفوا إليه أيضاً ثم على أتباعه وحواشيه وغلمان البلدرية ومقدمها، وبوابي دار الخلافة الذين جوازه عليهم ولم يزل مقيماً في هذه الدار إلى أن تكاملت عمارة الدار المنسوبة إلى علاء الدين تتامش على دجلة وما أضيف إليها مما جاورها فانتقل إليها في ذي القعدة من السنة، وأنعم الخليفة عليه باصطبله المقابل لها على دجلة.

وفيها، أستحجب عبد الرحمن بن يحيي بن المخرمي أخو صاحب الديوان وجعل أسوة بحجاب المناطق.

وفيها، قصد الخليفة مشهد موسى بن جعفر عليه السلام في ثالث رجب فلما عاد أبرز ثلاثة آلاف دينار إلى أبي عبد الله الحسين بن الاقساسي نقيب الطالبيين وأمره أن يفرقها على العلويين المقيمين في مشهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والحسين وموسى بن جعفر عليهم السلام.

وفي رجب، أعيد فخر الدين أبو طالب أحمد بن الدامغاني إلى أشراف المخزن وخلع عليه.

وفيها، وصل بشر خادم الأمير ركن الدين اسماعيل بن بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل ونفران من رماة البندق ومعهم طائر قد صرعه ركن الدين وانتسب ذلك إلى شرف الدين أقبال الشرابي فقبله وأمر بتعليقه فعلق تجاه باب البدرية وأن ينثر عليه ألفا دينار، ثم خلع على الخادم والواصلين صحبته وأعطاهم ثلاثمائة آلاف دينار.

وفيها، توفي محمد بن عبد العزيز بن محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن العجمي وهو من بيت رئاسة... قديمة.. وله شعر حسن فمنه: سقى الله ذا العيش غض والحبيب قريب لح في رياضه ويدعوننا داعي..

 

وفيها، توفي الملك العزيز محمد بن غازي بن يوسف بن أيوب ابن شادي صاحب حلب، كان قد توفي أبوه الملك الظاهر غازي وهو طفل فعهد إليه وجعل أتابكه ومربيه والقائم بأمره وتدبير دولته خادماً اسمه طغرل ولقبه شهاب الدين فقام بتربيته وبالغ في حراسة دولته وأحسن السيرة في الرعية إلى أن كبر وصار من أحسن الشباب صورة فاختر منه المنية في عنفوان شبابه وقد جاوز عشرين سنة من عمره وخلف ولدا صغيراً فعهد إليه، ومن العجب أن الملك الظاهر غازي لما مرض أرسل إلى عمه العادل أبي بكر محمد صاحب مصر والشام رسولاً يطلب منه أن يحلف لولده محمد هذا فقال العادل: سبحان الله أي حاجة إلى هذه اليمين؟ الملك الظاهر مثل بعض أولادي. فقال الرسول: قد طلب هذا ولا بأس باجابته فقال العادل: كم من كبش في المرعى وخروف عند القصاب. وحلف له فتوفي الظاهر والرسول عند العادل ولم تطل أيام الملك عبد العزيز محمد.

وفيها، توفيت ست شمائل وأسمها شجرة الدر التركية، كانت حظية الخليفة الناصر لدين الله مقربة إليه وكانت تكتب خطا جيداً وكانت تقرأ له المطالعات الواردة عليه لما تغير نظره ويملي عليها الأجوبة، ودفنت في تربة الخلاطية.

وفيها، توفي الملك كيقباذين كيخسرو بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان السلجوقي صاحب قونية وآقصراي وسيواس وغير ذلك من بلاد الروم، وملك بعده أخوه كيكاوس وكان كيقباذ أول مالك كبكاوس فلما مرض أحضره وا.. بأولاده.

ذكر حصر أربل

في سابع عشر شوال، وصل الخبر من أربل على جناح طائر بنزول عساكر المغول على أربل والأحاطة بها وتحصن أهل البلد بغلق الأبواب وصعود القلعة وأمر شمس الدين أصلان تكين الناصري بالتوجه إلى هناك جريدة ونفذ معه ثلاثة آلاف فارس بغير ثقل فتوجهوا في العشرين من الشهر وتوجه بعدهم الأمير مجاهد الدين أيبك الدويدار في جماعة من مماليكه جريدة ونفذ صحبته ابن كر الأربلي ثم خرج شرف الدين الشراب ومعه جماعة من الأمراء والمماليك وتوجه أيضاً نحوهم. وأحضر نصير الدين نائب الوزارة المدرسين والفقهاء واستفتاهم: إذا اتفق الجهاد والحج أيهما أولى؟ وأفتوا بأن الجهاد أولى، فأبطل الحج في هذه السنة، وأمر المدرسين والفقهاء ومشايخ الربط والصوفية برمي النشاب والاستعداد للجهاد وولي الأمير أيدمر الأشقر الناصري شحنة بغداد ووقع الاستظهار بنصب المناجيق على سور بغداد وأصلح الخندق، وأما المغول فأنهم نزلوا على أربل وحصروها ونصبوا المناجيق عليها، وقصدوا جهة من السور فهدموا جهة من السور فهدموا منه قطعة كبيرة ودخلوا البلد عنوة وقهراً فتحصن أهله ومعظم العسكر بالقلعة وقاتلوهم أشد قتال، وأمد المغول بدر الدين صاحب الموصل بما يحتاجون إليه من ميرة وآلة وغيرها، وأعوز أهل قلعة أربل الماء، فتلف منهم ألوف كثيرة بالعطش ولم يمكن دفنهم لضيقة الموضع ولا القاؤهم لئلا يسدوا الخندق فأحرقوا بالنار، ثم عاثوا في البلد أشد العيث نهباً وأسراً وأحراقاً وتخريباً، ثم اهتموا بالقلعة وجدوا في نصب المناجيق عليها فبلغهم وصول عساكر الخليفة فرحلوا راجعين إلى بلادهم في سادس ذي الحجة فورد الخبر بذلك إلى الشرابي فرجع والعساكر والأمراء في خدمته إلى بغداد فدخلها في ثالث عشر المحرم سنة خمس وثلاثين.

سنة خمس وثلاثين وستمائة

وفي المحرم، عزل علاء الدين هاشم بن الأمير السيد من صدرية المخزن ورتب عوضه فخر الدين محمد بن أبي عيسى نقلا من صدرية دجبل.

وفيها، حضر أسد الدين شير كوه صاحب حمص عالة وأخذها صلحاً ورتب بها نائباً.

وفيها، ولي أقضى القضاة عبد الرحمن بن اللمغاني تدريس الطائفة الحنفية بالمدرسة المستنصرية عوضاً عن أبن الانصاري الحلبي فإنه سأل الأذن في العود إلى بلده بأهله وأولاده فأذن له، وكانت مدة تدريسه بالمدرسة المذكورة أحداً وعشرون شهراً.

وفيها، في تشرين الأول جاء رعد هائل وبرق عظيم ووقعت صواعق كثيرة: منها صاعقة أصابت أنساناً بظاهر سور سوق السلطان قريباً من سوق الخيل كان على بغل فأحرقت بعض صدره ونصف البغل فوقعا ميتين ووقعت صاعقة أخرى في دار يهودي بخربة ابن جردة، وأخرى على نخلات بباب محول فأخرقتها، كل ذلك في ساعة واحدة، ووقعت صاعقة أخرى في شباط على الرواق بالمدرسة المستنصرية فشعثت منه موضعاً.

 

وفيها، رد أمر حجر البيع إلى تاج الدين علي بن الدرامي حاجب باب النوبي يومئذ، وعين الأمير شمس الدين أصلان تكين زعيما ببلاد خوزستان، عوضاً عن الأمير علاء الدين ايلدكز المعروف بطاز، وكانت مدة ولايته ثلاث سنين وخمسة أشهر.

وعزل، منصور بن عباس عن صدرية لديوان المفرد بنهر الملك ونهر عيسى وهيت، ورد أمرها إلى صاحب الديوان فخر الدين أبي سعيد المبارك بن المخرمي.

وفي ربيع الآخر، تقدم إلى المدرسين والفقهاء ومشايخ الربط والصوفية وأرباب الدولة من الصدور والأمراء بحضور جامع القصر لأجل الصلاة على ابنة بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل زوجة الأمير علاء الدين الطبرسي الدويدار الكبير وصلي عليها في القبلة وشيع الكل جنازتها، إلى المشهد الكاظمي ودفنت إلى جانب ولدها في الايوان المقابل للمدخل إلى مصف الحضرة المقدسة في ضريح مفرد، قيل أنها كانت نفساء، عن نيف وعشرين سنة ومدة مقامها في بغداد عشر سنين، وعمل العزاء في دار الأمير علاء الدين وحضر النقيب الظاهر الحسين بن الاقساسي وموكب الديوان وأقامه من العراء، ونفذ المحتسب أبو الفرح عبد الرحمن بن الجوزي إلى بدر الدين لؤلؤ ليقيمه من العزاء.

وفي جمادي الأولى، عقد العقد في دار الوزارة على ابنة سليمان شاه بن برجم بمظفر الدين محمد بن الأمير جمال الدين قشتمر، وأحضر أقضى القضاة عبد الرحمن بن اللمغاني ونوابه وكان مبلغ الصداق ألف دينار.

فيها، كثر شغب العوام ببغداد وقتل جماعة من الناس في عدة أماكن فولي عماد الدين طغرل الناصري شحنكية بغداد فسكن الناس.

وفيها، دخل دار الوزارة مملوك من مماليك الخليفة وهي مغتصة بالزحام لاجل السلام فقصد صفة المسند وأطبق دواة الوزير فانزعج الحاضرون ولم يشكوا أنه مأمور، وذلك عنوان العزل وتطالت الأعناق إلى ما وراء ما فعل، فبدأ منه مايدل على تغير عقله، فقام إليه أحد الحجاب ودبه بيده وأنزله من الصفة، وعرف الوزير هذه الصورة، فأنهى ذلك إلى الخليفة، فتقدم بهلاك المملوك فشفع الوزير فيه، ووقع الاقتصار على حبسه بالمارستان أسوة بالمجانين.

وفيها، اتصل مؤيد الدين أبو طالب محمد بن العلقمي وولده عز الدين أبو الفضل أحمد بابنتي الوزير مؤيد الدين محمد بن محمد القمي وكان الاجتماع بهما في شعبان وكان قد أفرج عنهما وردت عليهما أملاكهما وما اجتمع من اجرتها وهو سبعة آلاف دينار في صفر من السنة.

وفي شعبان، رتب شمس الدين عبد العزيز بن محمد بن خليد مشرفاً بدار التشريفات نقلاً من الكتابة بها، ورتب مجد الدين علي ابن أبي الميامن بن أمسينا الواسطي كاتباً بها، وقلد العدل الخطيب أبو طالب الحسين بن أحمد بن المهتدي بالله نقابة العباسيين.

وفي آخر شعبان، انتهي من عمارة باب جامع القصر مما يلي الرحبة وفتح، وفتحت المزملة التي عملت بالجامع المذكور أيضاً.

وفيه، نهض على بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل نفران من الباطنية ليقتلاه فجرحه أحدهما في يده فقبضا وقتلا وأخذ في التحرز بعد ذلك والاستتار.

وفيها، نقل العدل أبو طالب أحمد بن الدامغاني من أشراف المخزن إلى ديوان عرض الجيش المختص بالغرباء، وتفرد أبو علي الحسن بن المختار العلوي بديوان عرض العساكر البغدادية فصار حينئذ للجيش عارضان، وكان قد جعل لديوان المجلس حاجبان فقيل في ذلك:

هذه دولة حوت كل حسن ... وجهها مشرق بديع المعاني

فلها حاجبان زيدا جمالا ... ولها من جمالها عارضان

وفيه، علق طائر بباب بدر، قيل أنه رماه كيخسرو بن كبقباذ ملك الروم ونثر عليه ألف دينار، تولى ذلك عبد الله بن المختار.

وفيها، توفي شمس الدين التمش بن قطب الدين أيبك مملوك شهاب الدين محمد بن سام الغوري ملك الهند، وملك بعده ولده ركن الدين فيروز شاه فلم يستقم له الأمر، وتفرق عنه العسكر فقبضت عليه اخته وملكت بعده وأطاعها الجند والرعية وتلقبت - رضية الدنيا والدين - واستقام لها الأمر.

 

وفيها، توفي الأمير شرف الدين علي بن الأمير جمال الدين قشتمر، امه ايران خاتون ابنة أبي طاهر ملك المر، كان قد مرض وشفي وركب وخلع على الطبيب، فلما نزل، عرض له ألم في فؤاده واعقال طبع، فمات وكان شاباً جميلاً كريماً شجاعاً، قد أمر وأضيف إليه عدة من المماليك ورفع وراءه سيفان وتوفر اقطاعه، فاخترمته المنية في عنفوان شبابه، ودفن عند والدته بمشهد الحسين عليه السلام، واستدعي جمال الدين قشتمر إلى دار الوزارة، ومعه ولده مظفر الدين محمد وولده شرف الدين علي المتوفي، وهو فخر الدين مغدي فخلع على مظفر الدين وجعل أميراً على مائة فارس وعمره يومئذ ثلاث عشرة سنة، وخلع على فخر الدين مغدي وجعل أميراٍ على عدة خمسين فارساً، وعمره يومئذ خمس سنين، ثم خلع على الأمير جمال الدين قشتمر، كل ذلك جبراً لقلبه، من فجعته بولده.

وفيها، توفي الملك الاشرف أبو الفتح موسى بن الملك العادل أبي بكر محمد بن أيوب بن شادي صاحب دمشق، ملك بعد وفاة أبيه ديار الجزيرة وميا فارقين وخلاط، واستقر ملكه بها، ثم ملك سنجار صلحا، وقصد بلاد الموصل وسار يريد أربل، فراسله الخليفة الناصر لدين الله بالرجوع عنها والصلح، فأجاب إلى ذلك على أن يخطب له ويضرب الدينار باسمه، فأجاب مظفر الدين كوكبري إلى ذلك، فلما عاد إلى حران، راسل الخليفة يسأل تشريفه بالفتوة فنفذ إليه من فتاه بطريق الوكالة، وكان عنده أدب وفضل مع ظرافة ولطافة وكرم فائض، وكان متعففاً عن أموال الرعية منعكفاً على ملاذة، مشتهراً بحب الغلمان الأتراك والميل إليهم، مستهتراً بهم وله فيهم أشعار كثيرة، ليست بالجيدة: فما قاله في غلام تركي كان على خزانته:

أفدي قمراً تحار فيه الصفة ... يسخو بدمي وهو أمين ثقة

ماذا عجب بحفظ مالي ويرى ... روحي تلفت به ولا يلتفت

وكانت وفاته بدمشق في المحرم، وقد جاوز الستين سنة من عمره واستولى أخوه الملك الصالح اسماعيل على دمشق بعده.

وفيها، توفي ظهير الدين الحسن بن علي بن عبد الله من أعيان المتصرفين خدم أولاً خواجة الأمير علاء الدين تتامش، ثم تولى عرض ديوان الجيش ثم عين عليه في وزارة بلاد خوزستان، ثم عزل واعتقل هناك في سنة ست وعشرين، فكان على ذلك إلى أن توفي الخليفة الناصر لدين الله فأفرج عنه ووصل إلي بغداد فولي صدرية ديوان عرض الجيش ثم نقل إلى صدرية ديوان أربل فكان بها، ثم سأل أن يعفى من الخدمة بها فأعفي، ثم أعيد إلى بلاد خوزستان فكان بها إلى أن مات.

وفيها، توفي المللك الكامل أبو المعالي محمد بن الملك العادل أبي بكر محمد بن أيوب بن شادي صاحب مصر والشام، وكان فاضلاً أديباً متفقها وسمع الحديث ورواه وكان معظماً لأهل العلم محباً لهم يحضرهم مجلسه في كل اسبوع ويبحثون عنده ويتناظرون ويتكلم معهم، ويشركهم في بحثهم ويلزم معهم أدب المناظرة ويخاطبهم أحسن خطاب، وله شعر جيد، منه: ما كتبه إلى أخيه الاشراف حيث كان على دمياط:

يامسعفي أن كنت حقاً مسعفي ... فأرحل بغير تفند وتوقف

واطو المنازل والديار ولا تنخ ... إلا على باب المليك الاشرف

قبل يديه لا عدمت وقل له ... عني بحسن تعطف وتلطف:

أن تأت صنوك عن قريب تلقه ... ما بين حد مهند ومثقف

أو تبط عن أنجاده فلقاؤه ... يوم القيامه في عراص الموقف

 

ولما توفي أبوه، حذا حذوه في التيقظ والحراسة وحسن التدبير وسياسة الملك، فأخذ اليمن ومكة وتغلبا، ونفذ إليها ولده الملك المسعود بالمظفر يوسف، ولما أخذ الفرنج دمياط وتملكوها، جرد عزما ماضياً، وخرج بنفسه وجمع العساكر، وانتقل بهم وبجميع أهل البلد وبني مدينة مستأنفة وبنى بها جامعا ومدارس وأربطة وحمامات وخانات، ونقل إلها الناس على اختلافهم، ولم يزل محاصراَ لها مضيقاً على من بها حتى أخذها، وقبض على الفرنج وأخذهم اسرى ودخل القاهرة وهم بين يديه، ثم من على من أسرهم من ملوكهم وأحسن إليهم، وأطلقهم على أشياء قررها، ولو لم يكن له إلا هذا لكفي، فأنهم لما ملكوا دمياط أشرف باقي البلاد على الأخذ ولو أخذت مصر لما بقي بالشام معهم ملك لأحد، وكانت وفاته في شعبان بدمشق، وقد جاوز الستين من عمره، وكانت مدة ملكه منذ ملك مصر أربعين سنة، وعهد إلى ولده العادل حمد.

ذكر وصول عساكر المغول نواحي العراق

في صفر، وصلت الأخبار إلى أهل أربل، أن عساكر المغول عادوا إلى قصدهم في جمع كثير، فانتزح من كان بها وبالقلعة أيضاً، فلما رأى زعيمها الأمير شمس الدين باتكين خلو البلد، أمر بخروج العسكر المقيم هناك إلى ظاهر البلد ثم الاستعداد للحراسة فعدلوا حينئذ عن أربل فقصدوا دقوق، وانبثوا في أعمال بغداد وعاثوا بها أشد العيث، فوصل الخبر إلى بغداد فخرج شرف الدين اقبال الشرابي مبرزاً إلى ظاهر البلد، وأمر خطيب جامع القصر أبا طالب بن المهتدي بأن يحرص في خطبته على الجهاد ففعل ذلك، فبكى الناس لما سمعوا كلامه، وأجابوا بالسمع والطاعة، وقدم أهل السواد من دقوق وغيرها إلى بغداد، معتصمين بها وتضاعفت أجرة المساكن، وانزعج الناس لذلك، وتتابع خروج الأمراء والعساكر إلى ظاهر البلد، وركب الخليفة المستنصر بالله إلى الكشك، فنزل به وظهر للأمراء، وأمرهم المشورة، فقال كل واحد ما عنده، وسهل الأمير جمال الدين قشتمر الأمر في لقائهم، وعين الشرابي على جماعة من الأمراء لقصدهم، فتوجهوا إلى القليعة ونزلوا بها، فبلغهم أن المغول في جمع كثير وهم بالقرب من الجبل، فساروا نحوهم فلما قاربوهم تعبوا ميمنة وميسرة وقلباً، فلما شاهدت عساكر المغول ذلك ولوا راجعين، فتبعهم جماعة من العسكر فقتلوا منهم جمعاً كثيراً وأسروا منهم جماعة، وغنموا من دوابهم وأثقالهم، وأرسلوا إلى الشرابي برؤوس كثيرة، فضربت البشارة عند مخيمه وخلع على الواصلين بالخبر واستأذن الشرابي في دخول البلد فأذن له، فدخل في مستهل ربيع الأول، هو والأمير جمال الدين قشتمر والعسكر، وأذن لنور الدين أرسلان شاه بن عماد الدين زنكي صاحب شهر زور في العود إلى بلده، وخلع عليه وعلى أصحابه، وتقدم إلى تاج الدين محمد بن الصلايا العلوي بالتوجه إلى أربل وتجديد سورها وعمارة ما خرب من دورها ونفذ معه كركر الناصري ليكون مستحفظاً بقلعتها، وعين على الأمير ايدمر الأشقر الناصري زعيما بها وكان زعيمها الأمير شمس الدين باتكين قد فارقها.

ثم تقدم، بعمارة سور بغداد وقسم بين أرباب الدولة فسلم إلى نواب ديوان الأبنية منه قطعة مما يلي دار المسناة وقسم العمل بين ثلاثة، وهم فخر الدين المبارك بن المخرمي صاحب الديوان، وابن أبي عيسى صدر المخزن، وتاج الدين علي بن الدوامي حاجب الباب ووقع الحث على ذلك.

ثم وصل الخبر في شهر رجب المبارك أن عساكر المغول قد سارت نحو بغداد، فتقدم إلى الأمراء بالخروج إلى ظاهر البلد فخرج الأمير جمال الدين بكلك الناصري، والأمير جمال الدين قشتمر وغيرهما من الأمراء، وخيموا ظاهر البلد، وكاتب الخليفة ملوك الأطراف يستنجدهم ويعرفهم الحال، فوصل في شهر رمضان ولدا الملك الأمجد فرخشاه صاحب بعلبك، وهما الملك السعيد شاهنشاه والمظفر عمر ومعهما ألف فارس، فخرج الموكب إلى لقائهما فدخلا وقبلا العتبة فخلع عليهما، وعلى الأمراء الواصلين صحبتهما ثم خرجا وأنزلا في المخيم بظاهر السور.

 

ثم وصل بعده، الملك المشمر خضر بن صلاح الدين صاحب دمشق ومعه ستمائة فارس، وتلقي ودخل البلد وخلع عليه وعلى أصحابه وخرج إلى ظاهر السور، وخرج شرف الدين أقبال الشرابي أيضاً إلى مخيمه وتكملت العساكر عنده، فأمرهم المسير إلى لقاء المغول فساروا في شوال، وكانت عدتهم سبعة آلاف فارس، فوصلوا قريباً من جبل خانقين، فبلغ جمال الدين بكلك، أن عدة عساكر المغول خمسة ألف فارس، فسار ليله أجمع ليدركهم نازلين فكبسهم فلما أسفر الصبح، عبر هو والأمراء الذين معه والعسكر قنطرة هناك فلما تكاملوا عبور القنطرة، بان لهم غبار عساكر المغول وهم سائرون نحوهم فواقعوهم على تعب وسهر، واقتتلوا قتالاً شديداً وانكسرت ميمنة المغول وميسرتهم ولم يبق إلا القلب فحينئذ ظهرت كوامن كانت لهم وأحاطوا بعسكر بغداد وكانوا قد لحجوا وراء المنهزمين، فانهزمت حينئذ عساكر بغداد وقتل منهم خلق كثير فالتجأوا إلى دجلة؟ قريبة من موضع الوقعة فهلك معظمهم جوعاً وعطشاً، وعاد من سلم منهم إلي بغداد، وقتل جمال الدين بكلك وطبرس وطغرل الحلبي وقيصر الظاهري وبهاء الدين علي الأربكي وكيكلدي بن قرغوي، وجماعة من كبار الزعماء يطول ذكرهم، وكانت هذه الوقعة يوم الخميس ثالث ذي القعدة، ووصل الخبر على جناح طائر يوم الجمعة رابعه، فانقلب البلد وماج بأهله ووصل أثر الطائر أهل طري خراسان، والبندنيجين، وغيرهم منتزحين عن أوطانهم، وقدم ابن أبي عيسى صدر المخزن ومشرفه والعمال والنواب، وكثر الرهج وضج الناس، فتقدم الخليفة إلى كافة الأمراء بالتبريز وفتحت أبواب السور، فخرجوا في تلك الليلة وخرج الشرابي، وخيموا جميعهم بالقرب من الملكية، وخرج الخليفة لينظر المخيم والعسكر، فبلغ الشرابي ذلك فركب عجلا للقائه، فظن الناس أن ركب الشرابي لأمر حدث، فركب العسكر منزعجين ووصل الخبر إلى عوام البلد وخواصه، فخرج أكثرهم متسلحين، فلما عرفوا حقيقة الحال سكنوا واطمأنوا، أما المغول فإنهم حازوا الغنائم وعادوا راجعين من خانقين وراسلوا الخليفة فوصل رسولهم في ربيع الآخر سنة ست وثلاثين وستمائة، فانفذ العدل جعفر بن محمد بن عباس البطائحي ناظر التركات، صحبة الرسول الوارد من جرماغون مقدمهم، وكان عوده في سنة سبع وثلاثين. واجتمع به بالقرب من قزوين، وأذن للشرابي والأمراء والعساكر بالدخول إلى البلد، فدخلوا في آخر ربيع الآخر،،لم يحج أحل في هذه السنة أيضاً.

كتاب كتاب الحوادث الجامعة والتجارب النافعة ابن الفوطي

  كتاب الحوادث الجامعة والتجارب النافعة ابن  الفوطي   بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين تابع لسنة 626هـ أحد خدم الخليفة إلى الما...